من البديهي ان سفر الأب للخارج لأسباب اقتصادية يحقق نوعاً من الرفاهية للأسرة، غير أنه في مقابل ذلك يسلب الأسرة الإحساس بالأمان والدفء.. ويتساءل البعض: هل تجوز التضحية بالترابط الوجداني في سبيل توفير ظروف أفضل للعيش والحياة الكريمة لتلبية متطلبات العصر المتزايدة في ظل الظروف الاقتصادية القاسية؟ وهل يمكن التغاضي عن العديد من الأمراض النفسية التي بدأت تتفشى في المجتمع مثل: الخوف والقلق، والاضطراب والحزن والشك والصداع.
جدول المحتويات
أهمية دور الأب والأم في الأسرة
يقول أخصائي الطب النفسي: أن الطفل يولد لأبوين ويحتاج عبر مراحل حياته لهذين الأبوين معاً احتياجاً روحياً ووجدانياً ونفسياً قبل أن يكون احتياجاً مادياً. ذلك كي يحدث النمو النفسي الطبيعي للطفل فوجود أحدهما فقط لا يكفي. فالطفل يحتاج الى صورة الأب وكذلك صورة الأم.. لأن تكوين الشخصية لا بد أن يكون من خلال المحاكاة والتقليد والوجود. كما أن التصور الأسري (بمعنى الأسرة) كوحدة للمجتمع لا يتأتى إلا من وجود الأب والأم معاً..
فالأب يمثل القوة والدعامة والمساندة وهو النافذة التي تطل منها الأسرة على المجتمع.. وهو الذي يحمي أسرته ويحدث وحدة بين الطفل الذكر وأبيه. ولا يمكن لهذا الطفل أن ينمو نمواً طبيعياً إلا من خلال الأب.
والأم تمثل الرعاية والحنان والحب للأسرة فغيابها يحدث صدمة عاطفية. وقد أثبتت كل الدراسات بلا استثناء في العالم كله أن الطفل يصاب بالمرض النفسي حين تبتعد عنه أمه. وهي حالة مرضية معروفة في الطب النفسي بقلق الانفصال أو الحرمان من الأم.
ويرجع العلماء كثيراً من الأمراض النفسية والعقلية التي تصيب الصغار الى هذه الصدمة العاطفية. كما يرجعون الكثير من الأمراض التي تصيب الكبار الى تعرضهم لهذا الانفصال في طفولتهم. وتأكيداً لهذا أجريت تجارب هامة وكثيرة على قرود حديثة الولادة والتي تولى رعايتها أمهات بديلات أي ليس الأم الأصلية. فوجدوا ان القرود الصغيرة أصبحت عصبية المزاج كثيرة الحركة وعدوانية. كما أن نموها تأخر عن المعدلات الطبيعية بينما ظهر الهدوء واضحاً على القرود التي قامت بتربيتها امهاتها الأصلية، وكان نموها طبيعياً.
فالخلاصة أنه على المستوى البيولوجي والنفسي لا بد من وجود الوالدين معاً إذ أن أحدهما فقط لا يكفي. كما أن البديل لا يفي بحاجة الطفل واحتياجه لحنان والديه.
وبما أن الأسرة هي المثلث الهام الذي يجعل في إحدى زواياه الأب، والثانية الأم، والزاوية الثالثة الأطفال. فإن الهيكل الأسري ينهار باختفاء أحد أقطابه أو زواياه إذ لا يوجد مثلث بزاويتين فقط.
تأثير سفر الأب وغيابه علي الأبناء
وانطلاقاً من هذا نستطيع أن نتوقع حدوث خلل في الكيان الأسري بسفر الأب تحت ضغط أي شعار. وغالباً ما يكون الشعار الاقتصادي. فالأم مهما فعلت للتعويض لن تستطيع تعويض غياب الأب. فللأب دور يختلف عن دور الأم، لهذا يحدث تصدع خطير في البناء النفسي للطفل في ظل غياب الأب. ويحدث ما يسمى بالتسيب الداخلي، لأن الأب، سيكولوجياً يمثل القوة والحماية. فهو المثل الأعلى في الأسرة والضمير الذي يحاسب ويراقب ويعاقب.
وقد أكدت الأبحاث العلمية في كل أنحاء العالم ارتفاع نسبة الانحرافات السلوكية عند الأطفال في حالة غياب الأب بالموت أو السفر الطويل أو الطلاق. فمظاهر غياب الأب هذه الأيام، تطغو في شكل تسبب للأطفال تعثرهم الدراسي وانحرافاتهم السلوكية التي نراها في الأطفال الصغار. فالطفل في مرحلة الطفولة في حاجة الى الحب والرعاية والتربية والحزم أكثر من احتياجه لتلبية احتياجاته المادية. وحين تبذل الأم جهداً مضاعفاً وتحاول أن ترتدي قناع الأب أيضاً فإن صراعاً ينشأ بينها وبين الأبناء. صراع ينتج عنه الرفض والعدوانية واضطراب السلوك والتحدي للقيم المتعارف عليها اجتماعياً. هذا الصراع يحدث لأن الأب هو الذي يرسي قواعد هذه القيم في نفوس الأطفال وهو المسؤول عن التنشئة الاجتماعية. أي ربط أطفاله بالمجتمع لكي يحدث التكيف الاجتماعي والالتزام بالأنماط السلوكية والقيم السائدة في هذا المجتمع.
والطفل من شدة احتياجه للقدوة يخرج من الأسرة باحثاً عن أب، أي باحثاً عن نموذج يحتذي به. وبالقطع فإن هذا النموذج سيكون مشوهاً أو غير كامل أو غير قادر على العطاء الكامل. وهذا يؤدي إلى مزيد من الاحباط لدى الطفل وبالتالي مزيداً من الاضطراب النفسي السلوكي. كما أن هناك أطفالاً يعانون أيضاً نفسياً بمجرد سفر الأب فنجد أن الطفل بدأ يتلعثم أو يتبول لا إرادياً أثناء النوم أو يفقد شهيته للطعام أو يتعثر دراسيا او يضطرب سلوكيا كأن يكذب أو يسرق أو يصبح عدوانياً.
تأثير سفر الأب وغيابه علي الزوجة
وينتقل الأخصائي لتوضيح تأثير غياب الزوج على الزوجة فيقول: بالنسبة للزوجة بان الاستمرارية مهمة لتستقيم العلاقة بين الزوج والزوجة، وتستلزم استمرارية الترابط بين الزوجة وزوجها الوجود الجسدي والمعنوي، فقد يكون الزوج موجوداً بجسده وغائباً بعقله وإحساسه والنتيجة تقريباً واحدة، ومما لا شك فيه أن غياب الزوج يؤثر على استقامة العلاقة الزوجية لأن وضع الزوجة يكون غريباً وشاذاً فهي مطلقة مع وقف التنفيذ فينشأ الصراع النفسي، لهذا ينصح بأن تسافر الأسرة كلها في حالة ضرورة سفر الزوج، أو يبقى في بلده مع أطفاله وزوجته بدخله المحدود لحماية قيم وصحة الأسرة النفسية.
ويأتي دور رأي علم الاجتماع فتؤكد إحدى إخصائياته أن غياب الزوج بالسفر مشكلة تلقي ظلالها على أطراف العلاقة الأسرية والأم في هذه الحالة هي الضحية الأولى، لتعدد مسؤولياتها، بالإضافة الى التزامها بارتداء قناعين قناع الأب وقناع الأم، وبالرغم من سفر زوجها فهي مكبلة بأغلال الزوجية مما يسبب لها صراعات نفسية.
أما بالنسبة لموقف الأبناء فإنه قد ينشأ بين الأم وأبنائها صراع ينتج عنه الرفض والعدوانية، وتحد للقيم المتعارف عليها اجتماعياً. هذا الصراع سببه الرئيسي أن الأب هو الوحيد الذي عليه ارساء قواعد هذه القيم في الأطفال.
العلاج وحل المشكلة
لا يوجد حل سحري لمشكلة غياب الأب، ولكن هناك بعض الأمور التي يمكن القيام بها للتخفيف من آثارها السلبية، منها:
- تعويض غياب الأب عن الأسرة: وذلك من خلال إشراك أفراد الأسرة الآخرين في تحمل المسؤولية، مثل مشاركة الأبناء في شؤون المنزل، أو مشاركة أحد الأقارب أو الأصدقاء في رعاية الأبناء.
- تقوية الروابط بين أفراد الأسرة: وذلك من خلال تنظيم الأنشطة والفعاليات التي تجمع أفراد الأسرة معًا، وتعزيز التواصل بينهم.
- تقوية شخصية الأبناء: وذلك من خلال تشجيعهم على الاعتماد على أنفسهم، وتنمية مهارات التفكير والاستقلالية لديهم.
- التواصل مع الأب باستمرار: وذلك من خلال الهاتف أو الإنترنت، للحفاظ على العلاقة بين الأب والأبناء.
- توفير بيئة آمنة ومستقرة للأبناء: وذلك من خلال توفير الرعاية والحب والاهتمام لهم.
وتنصح الأخصائية: من أراد من الشباب السفر أن يكون ذلك قبل الزواج ومجيء الأولاد.
وفي النهاية تحذر كل زوج من تركه لأسرته في سبيل المال أو حتى العلم، وإذا اضطرته لذلك الظروف فعليه اصطحاب أسرته.