غياب الأب.. والحياة المادية؟ نؤكد أن مهمة الآباء صارت اليوم تتمركز أو كادت فى تهيئة جانب واحد فقط من الجوانب التى تسهم فى عملية النمو. ألا وهو توفير الأمن الاقتصادى للأطفال، مع إهمال بقية الجوانب الأخرى التى تسهم فى عملية النمو تلك، وخاصة ما يرتبط بالجوانب النفسية والوجدانية والخلقية والروحية .. إلخ، وهذا ما يؤكد أن ثمة خللاً بدأ يعترى كيان الأسرة مما يهدد بتفتتها وانعدام دورها الحيوى. فالكثير من الآباء يظنون أن توفير الجانب المادى بات يشكل ضرورة أساسية وملحة لتحقيق التربية السوية ، لذلك. . تضخمت مشكلة غياب الآباء عن البيت وتكالبهم على جمع المال بشتى الطرق والوسائل ، ظناً منهم أن المال قد أصبح كل شئ!!.
جدول المحتويات
الأباء.. ورحلة البحث عن المال
وقد نسلم بأن الجانب المادى على قدر من الأهمية لأنه يحقق الأمان الاقتصادى للأبناء، إلا أنه لا يمكننا أن نعتمد عليه وحده. لأن المال بمفرده لا يحقق أو يتمم عملية التكوين النفسى السليم للإنسان. فضلا عن أن طريقة الإشباع للجانب المادى على ضوء المبالغة فى الاهتمام بهذا الجانب دون مراعاة الاهتمام بإشباع الجوانب الأخرى، لاتساعد إطلاقا على تحقيق الأهداف المرجوة للصحة النفسية. كما أنه لا يمكن أن يتم الاتزان الانفعالى والسواء النفسى لأطفالنا بمعزل عن إشباع بقية الحاجات الأخرى. كالحاجة إلى الحب، والأمن، وإثبات الذات ..إلخ، لأن إشباع مثل هذه الحاجات يشكل أهمية كبرى فى عملية التكوين النفسى السوى للإنسان.
لقد أصبح واقع هذه الأيام واقعاً سيئاً بكل ما تحمله الكلمة من معان ودلالات. فهناك الآلاف من الآباء يتركون أسرهم سعياً وراء تحسين وسائل معيشتهم. متناسين أن هذا المال الذى يقدمونه لأسرهم لن يكون بحال من الأحوال تعويضاً مناسباً. لأن المال هو «جزء» من متطلبات الحياة وليس «كل» فالأهم منه – دون شك – هو ذلك الإشباع العاطفى والوجدانى. ذلك الإشباع الذى يتمثل فى شعور الأبناء بتواجد آباءهم إلى جوارهم، يقدمون لهم العون والمشورة والرعاية والحنان والأمن.. هذا الإشباع نراه يتلاشى ويذوب بعد غياب الآباء.
إحصاءات
نشرت فى إحدى المجلات العربية إحصائية تبين أن هناك حوالى نصف مليون من الآباء المصريين المهاجرين سعياً وراء المال للعمل فى المملكة العربية السعودية. بينما بلغ عدد الآباء الذين هاجروا للعمل فى دولة الكويت حوالى 220 ألف فرد. فضلاً عن آلاف غيرهم هاجروا للعمل فى بلاد عربية أخرى، علاوة على أعداد كبيرة قد هاجرت للعمل فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. حتى أن الأشقاء العرب لم يسلموا من هذه الهجرة، فهناك الآلاف ممن يعيشون فى أوروبا وأمريكا كرجال أعمال.
إقرأ أيضا:
- تأثير الخلافات الزوجية على الأطفال .. احذر آثارها السلبية
- دور الأب في تربية الأبناء دليل شامل
- تأثير غياب الأب على نفسية الطفل وأهمية الوجود النفسي للأب
ضياع الأبناء
لعل مشكلة غياب الأب لفترات طويلة عن البيت، بغرض جمع المال قد يؤثر فى مستوى ما لديهم من طاقة نفسية. فالعمل المضنى طوال اليوم يستنزف كل جهدهم، لأننا نرى الأب منهمكاً ومرهقاً، فلا يستطيع أن يشبع بقية ما يتطلبه أبناؤه من الحاجات الأخرى. ليقتصر دوره فى النهاية على أنه «مجلب للمال» وحسب. إن أبناء ينشأون فى مثل هذه الظروف هم أبناء تعساء، قد يكون لديهم ما يكفيهم من المال ليبتاعوا أفخر الثياب، وأغلى اللعب والأدوات ، ولكنهم يشعرون بغياب الأب، ودعونا نتساءل :
- من يتابع سلوك هؤلاء الأبناء؟
- من يقف على نوعية هذا السلوك من حيث صلاحيته أو عدم صلاحيته؟
- ومن يلاحظ اتجاهاتهم التى يكتسبونها؟
- ومن يتسنى أن يقوم تلك الاتجاهات من حيث إيجابيتها أم سلبيتها؟
- وأخيراً. . من يعوض الأبناء افتقاد الآباء؟
إن عدم تواجد الآباء إلى جوار أبنائهم يدفعهم إلى الاستخفاف بالدراسة والأهمال فى التحصيل المعرفى والمدرسى. الأمر الذى يؤدى إلى فشلهم وإخفاقهم، فأى نوع من التفوق والنبوغ نتوقعه من أبنائنا فى ظل غياب الأب!؟
ولعل الدكتور اجمال ماضى أبو العزايم» يوضح بأن مشكلة الإدمان سببها الرئيسي هو أصدقاء السوء. ففى عام ١٩٦٧م من القرن المنصرم كانت نسبة الإدمان بين الشباب بسبب أصدقاء السوء ٣٠% حتى وصلت هذه النسبة عام ١٩٧٣ م إلى ٩٠%، والسبب فى ذلك كان غياب الأب.
تفكك أسرى
إن التكالب على المال بشكل مبالغ فيه يترتب عليه ارتفاع معدل الشجار بين الزوج وزوجته. لأنه ليست لديهم أى طاقة نفسية مختزنة، تستطيع أن تواجه الأزمات بشئ من الصبر والإناة. الأمر الذى يجعل البيت فى النهاية يعج الاضطرابات والقلاقل، فينعكس ذلك على الأطفال سلباً وتردياً. فيكونون هم الضحية أو كبش الفداء لأطماعنا التى لاتنتهى. وكم نرى من أطفال تعساء وحزانى، يؤثرون الهروب من هذا الجو المشحون بالتوتر إلى بيئات أخرى يلمسون فيها الأمن و الاطمئنان والهدوء. فلا نلوم إذاً هؤلاء الأبناء إذا خالطوا رفقاء السوء ، أو غرقوا فى خبرات جنسية مبكرة، أو إذا أدمنوا المخدرات أو الكحوليات، أو اعتادوا السرقة والتخريب، أو كافة الأساليب السلوكية الأخرى اللاسوية ، لأننا نحن الملامون أولاً وأخيراً.
ضياع الآباء أنفسهم
غير خاف على أحد أن فى هجرة الآباء سعياً وراء المال ما قد يعود بالسلب على هؤلاء الآباء أنفسهم. فقد يعود الأب بعد هجرة طويلة لأسرته ليجد نفسه فاقد السيطرة على أبنائه لأن أصدقاء السوء من الكبار أو الصغار قد تسلطوا عليهم فأغووهم. فانتهى الأمر بعلاقات مشبوهة ومنحرفة، نتيجة عدم تواجد الأب الذى هو ممثل السلطة. ودعونا نتساءل من جديد : بماذا يفيد المال إذا انحرف سلوك الأبناء عما هو مألوف وسوى، فأودعوا مؤسسات رعاية الأحداث المنحرفين. أو زج بهم فى غياهب السجون؟؟
وضياع الزوجة أيضاً
بالقطع لن تنتهى الأضرار الناجمة عن غياب رب الأسرة وممثل السلطة فيها. فالأم قد تلجأ فى كثير من الأحيان – أثناء غياب الزوج – إلى قريب أو صديق أو جار لتسأله المشورة فى الأمور التى تستعصى عليها، وفى هذا إفساد وضياع. خاصة حينما تتولد الثقة بين هذا الشخص وبين الأسرة، هذه الثقة التى تؤدى إلى اهتزاز صورة الأب. أو قد تؤدى إلى ظهور علاقات محرمة بين هذا الشخص وبين الزوجة!!.
الحل
دعونا لنؤكد من جديد أن التربية السوية لاتعتمد أساساً على توفير المال فقط. نعم، المال عصب الحياة، ولكنه ليس كل شئ. إن السعادة الحقيقية التى نعرفها لن تتحقق بتوافر قدر كبير من المال. لأن هناك أشياء أخرى كثيرة فى هذه الحياة لايستطيع المال أن يشتريها. لعل من أهمها فى هذا الصدد هو وجود أبناء يتمتعون بقدر كبير من السواء النفسى أو الصحة النفسية.
وحتى لايتهمنا أحد بالنرجسية والمغالاة فى المثالية. نقول : إذا كان من الضرورى أن يهاجر الأب إلى بلد من البلدان لكسب مادى عادل ومشروع لرفع مستوى معيشة أسرته فعليه أن يصطحب زوجته وأطفاله معه. وكذلك الزوجة التى قد تجد فرصة للعمل خارج بلدها تهيئ لها ولأسرتها معيشة طيبة وكريمة.
علينا أن ننظم أمورنا، وأن نفكر فى قرار الهجرة بدون الزوجة والأبناء مرة ومرات، قبل أن ننهك أنفسنا فى جمع المال، لنحصد فى النهاية ضياع الأبناء الذين يحلو لنا أن نسميهم «فلذات الأكباد»!!
د. وفيق صفوت مختار، الأسرة وأساليب تربية الطفل، دار العلم والثقافة، 2004