قصة قلب من ذهب

في هذه القصة المؤثرة، نقدم للأطفال والقراء على حد سواء مغامرة فريدة من نوعها مليئة بالإنسانية والعطاء، يأخذنا الطبيب شارل وايت في رحلة مشوقة من خلال قصة حقيقية تجمع بين الشجاعة والرحمة، يظهر لنا قلب من ذهب يتجاوز حدود العرق والطبقة الاجتماعية، حيث يكمن الجمال في تجاوز الاختلافات وفهم قيمة الإنسانية.

حدثت وقائع هذه القصة في إحدى المناطق بأمريكا الشمالية، وبطلها شاب أسمر اللون، خشن الشعر، كانت أمه من الهنود الحمر وهم أهل البلاد الأصليين. وهي من القصص التي تظهر أن قيمة الإنسان ليست بلونه ولا بأهله، ولكن بحسن عمله في هذه الدنيا.

ثلاث سفن

كان يوم الثالث من شهر آب سنة ١٤٩٢ للميلاد من أهم الأيام في تاريخ البشرية.

في ذلك اليوم، كانت ترسو في ميناء (بالوس) بإسبانيا ثلاث سفن شراعية كبيرة.

وكان ميناء (بالوس) في ذلك الوقت، من أهم موانئ إسبانيا، وهو يقع على الساحل الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة الإسبانية.

كان ميناء (بالوس) في ذلك اليوم التاريخي العظيم، مليئاً بالناس الذين حضروا من جميع أرجاء إسبانيا، لمشاهدة إبحار هذه السفن الثلاث.

وكانت في الميناء أيضًا الملكة (إيزابيلا) وحاشيتها ووصيفاتها، وقد حضروا جميعا ليكونوا في وداع السفن الثلاث، والستين بحارًا، الذين تطوعوا للقيام بأخطر وأعظم رحلة بحرية سمع بها العالم في ذلك الوقت.

لماذا اهتم الاسبانيون، وملكتهم (إيزابيلا) هذا الاهتمام العظيم بالسفن الثلاث؟

كانت هذه السفن التي أعدها (كريستوف كولومبس).

إن (كريستوف كولومبس) نفسه لم يكن يعرف في ذلك الوقت أن رحلته ستكون من أكبر الأحداث في تاريخ الإنسانية جمعاء.

كان كل ما يهدف إليه من وراء رحلته هذه، هو الوصول إلى الهند بالاتجاه غربًا، وذلك لأنه كان يقتنع اقتناعًا تامًا بأن الأرض كروية، وكان الذهاب إلى الهند في ذلك الوقت له أهميته الكبيرة، إذ كانت قوافل التجار الأوروبيين تتجه شرقًا وتسير شهورًا طويلة حتى تصل إلى الهند عن طريق البر.

رحلة كولومبس في المحيط إلي أمريكا

وكانت هذه القوافل تتعرض باستمرار لهجمات قطاع الطرق وغير ذلك من المخاطر التي تهددها طوال هذه الرحلة الشاقة.

كان التجار الأوروبيون يحملون معهم، وهم في طريقهم إلى الهند شرقًا، منتجات الدول الأوروبية كالأقمشة بمختلف أنواعها والحلي، فيبيعونها هناك بأثمان باهظة، ثم يشترون بأبخس الأثمان منتجات الهند كالعاج ومختلف أنواع البهار، وطيور الزينة وغير ذلك، ثم يعودون إلى أوروبا ليبيعوا هذه المنتجات بأغلى الأثمان.

وكانت الملكة (ايزابيلا)، ملكة إسبانيا، على جانب كبير من الذكاء وسعة الاطلاع. ولما عرض عليها (كريستوف كولومبس) فكرة إمكان الوصول إلى الهند بالاتجاه غرباً، رحبت بهذه الفكرة رغم ما فيها من مخاطر. لأنها لو نجحت، فسوف تربح إسبانيا بعد ذلك أموالًا طائلة من وراء التجارة فقط.

رحلة كولومبس

وتحملت الملكة جميع نفقات هذه الرحلة، وبعد ذلك، ابتدأ (كريستوف كولومبس) في البحث عن بحّارة، لديهم من الخبرة والشجاعة ما يجعلهم يقبلون على هذه الرحلة البالغة الخطورة.

وتمكن (كولومبس) من العثور على أحد عشر بحّارًا من أكثر البحارين خبرة وشجاعة.

والغريب في الأمر أن (كولومبس) لم يكن مواطنًا إسبانيًا، فهو أصلاً من إيطاليا، ولقد شب وترعرع في مدينة (جنوى).

ولكن تحمس ملكة إسبانيا لهذه الرحلة وتشجيعها وحسن معاملتها، كل هذه الأمور، جعلت (كريستوف كولومبس) يخلص لمهمته كأنه مواطن إسباني مخلص. وانطلقت السفن من ميناء (بالوس).

وظلت تمخر عباب المحيط شهرين كاملين، كان البحارة في أثناء ذلك لا يجدون أمامهم سوى الماء الذي بدا وكأنه لا نهاية له.

وأدرك (كولومبس) أن بحارته تساورهم بين آونة وأخرى، هواجس الشك في نجاح الرحلة، وابتدأ اليأس يخيم عليهم، وظهر ذلك على وجوههم بشكل واضح.

وبذل (كولومبس) كل ما في وسعه لكي ينعش آمال الرجال.

لقد كان واثقًا من أنهم سوف يصلون إلى اليابسة، إن عاجلاً أو آجلاً ما دامت الأرض كروية، حتى ولو وجدوا أنفسهم يعودون ثانية إلى أوروبا.

كل ما في الأمر أنه لا بد من الصبر.

وازداد الموقف خطورة، حين تعرضت السفن الثلاث لعاصفة هوجاء.

كولومبس يقنع الملكة بتمويل رحلته إلي الهند - قصة قلب من الذهب

ولكن (كولومبس) ورجاله جاهدوا جهاد الأبطال حتى خرجوا سالمين بسفنهم من هذه العاصفة الجبارة. وأخيراً، لمح (كولومبس) ورجاله اليابسة عن بعد، فهللوا فرحاً، وصاروا يرقصون، ويغنون ويقبل بعضهم بعضاً.

اعتقد (كولومبس) أنهم وصلوا إلى الهند.

ولكنهم في الحقيقة كانوا قد وصلوا إلى (سان سلفادور) ثم (كوبا) ثم (هايتي)، ومن أجل ذلك سُمِّيت هذه الجزر بجزر الهند الغربية.

وتكررت رحلات (كولومبس) حتى اكتشف أمريكا الشمالية. وما فيها من خيرات لا تكاد تقع تحت حصر.

ومات (كولومبس) بعد ذلك وهو لا يعلم القدر الحقيقي لاكتشافه العظيم.

لقد أطلقوا على أمريكا في ذلك الوقت اسم ((الدنيا الجديدة))، وذلك لأنها كانت جديدة فعلاً، ولم يدخلها رجل أبيض واحد قبل (كريستوف كولومبس) وبحارته الستين.

الهنود الحمر

وذاع خبر هذا الاكتشاف في كل بلدان أوروبا، واهتمت به جميع الدول الأوروبية.

وابتدأ عدد كبير من الأوروبيين، يهجرون أوطانهم الأصلية ليستوطنوا أمريكا.

كان هدف كل هؤلاء المهاجرين مركزًا على جمع المال بأية وسيلة من الوسائل.

وابتدأت حوادث كثيرة من الصراع الدامي بين هؤلاء المهاجرين وبين أهل أمريكا الشمالية الأصليين، وهم الذين أطلقوا عليهم اسم “الهنود الحمر”.

كان الصراع غير متكافئ بطبيعة الحال.

كان الهنود الحمر في حالة متأخرة من الحضارة، وكانت أسلحتهم أضعف بكثير من أسلحة المهاجرين.

ومرت السنوات.

واحتمى الهنود الحمر في الغابات النائية والأحراش، وفي بعض المناطق الجبلية الوعرة.

والهنود الحمر يمتازون بحدة الذكاء وبسرعة الفهم، لذلك فإن عددًا كبيرًا منهم تمكنوا من الإحاطة بعلوم الرجل الأبيض وصاروا يرسلون أبناءهم ليدرسوا في المدارس التي فتحها المهاجرون بعد أن استقروا في أمريكا، وجعلوها وطنهم الأصلي.

ولكن الأمريكيين الجدد، دفعتهم غطرستهم إلى وضع حدود بينهم وبين الهنود الحمر.

وكانت هذه الحدود تشبه إلى حد كبير ما كان متبعًا في الإمبراطورية الرومانية القديمة. إذ كان الرومان لا يعتبرون الأسرى من العبيد، وكانوا ينظرون هذه النظرة كذلك، إلى كل إنسان أفريقي أو أسيوي، فيحرمون الزواج منهم تحريمًا قاطعًا.

الأوربيون البيض يضهدون الهنود الحمر

وعلى ذلك بدأت الدنيا الجديدة تعرف لأول مرة في تاريخها التفرقة العنصرية البغيضة.

تمكن عدد غير قليل من شبان الهنود الحمر من الالتحاق بالجامعات التي أنشأها الأمريكيون الجدد.

وكان من بين هؤلاء شاب اتخذ لنفسه اسم “شارل وايت”.

ذلك هو الاسم الذي اشتهر به، وهو اسم غير هندي بطبيعة الحال، إذ إن كثيراً من طلبة الجامعات الهنود كانوا يتخذون لأنفسهم أسماء أوروبية لأن أسماءهم الهندية كانت طويلة ومعقدة، ويصعب على زملائهم الأوروبيين النطق بها.

شارل وايت

درس (شارل وايت) الطب، ونال إجازته بتفوق، فكان ترتيبه الأول على جميع الطلبة من أوروبيين وهنود.

كان شارل ابن أحد زعماء الهنود الحمر، وكان أبوه يعتبر من الأثرياء، فهو يملك أراضي واسعة وعدة قطعان من المواشي.

رفض (شارل وايت) العقود التي عرضت عليه بعد تخرجه ليعمل في المستشفيات الحكومية أو في المؤسسات التي كان يملكها ويديرها الرجال البيض.

لقد فضل (شارل) أن يعمل مستقلاً لأنه كان يعلم أن عدداً كبيراً من الهنود الحمر في حاجة إلى رعاية طبية، فالأغلبية منهم كانت تعاني معاناة شديدة من الفقر.

ومن ناحية أخرى كان الهنود الحمر يؤمنون بالكثير من الخرافات. فإذا اشتد المرض بأحدهم مثلاً اعتقدوا أن إحدى الأرواح الشريرة قد دخلت في جسد المريض ويعالجونه على هذا الأساس.

وكان السحرة هم الذين يشيرون على أهل المريض بنوع العلاج الذي يجب عليهم اتباعه.

وفي بعض الأحيان كان يشير الساحر بضرب المريض ضرباً شديداً، أو بحرق بعض أجزاء من جسمه حتى تخرج الروح الشريرة منه.

وتكون نتيجة فعل هذا العلاج بطبيعة الحال أن تزداد حالة المريض سوءًا ثم يموت بعد ذلك.

أراد (شارل وايت) أن يكرس حياته لخدمة الهنود الحمر، لا يهمه الكسب المادي لأنه يعتبر أن مهنة الطب مهنة إنسانية قبل كل شيء آخر.

وكان يأخذ من الغني لينفق ما يأخذه على الفقراء، وهكذا ذاع صيته وامتدت شهرته حتى صار يلقب بـ (أبي الفقراء).

وكان في معالجة الرجال والنساء البيض، يتناسى عداءهم، ويهتم بهم، بروح طيبة إنسانية، كما تملي عليه واجباته.

الطبيب شارل وايت يدرس علي ضوء الشمع - قصة قلب من ذهب

وفي أحد الأيام، زارته سيدة، في العقد الخامس من عمرها. وكانت منذ عشرين عاماً، قد هاجرت وزوجها من ألمانيا، شأن الكثيرين ممن اتخذوا من أميركا وطنا لهم…

قالت السيدة: إن زوجي مريض ولا يقوى على الحضور إلى هنا، فهل تسمح سيدي الطبيب بالذهاب معي لمعالجته؟

وذهب معها.

طبيب الرحمة

وكانت السيدة قد حدثت الطبيب قبيل وصولها وإياه إلى البيت، أن زوجها أصيب بخسارة فادحة، لدى غرق السفينة المحملة بالقمح العائد كصفقة تجارية له.

وكان للسيدة زوجة المريض فتاة في ربيعها السادس عشر، ذهبية الشعر، ذات وجه جميل، عليه مسحة كئيبة من الحزن والبؤس.

وكانت الفتاة، تنتظر عودة أمها والطبيب، بفارغ الصبر، وما كادت تلمحهما حتى فتحت الباب لهما.

فقالت الأم:

ابنتي (دورا) وكانت تتمنى لو تكمل دراستها لتلتحق بكلية الطب.

وانحنى الطبيب قليلاً في احترام وقال:

– تشرفت بمعرفتك يا عزيزتي.

ثم قالت الأم لابنتها:

– الدكتور (شارل وايت) أصر على أن يفحص والدك بنفسه، ورفض رفضاً باتاً أن يأخذ مني أي أجر. لأنه يعتبر مهنة الطب مهنة إنسانية قبل أي شيء آخر.

ونظرت (دورا) إلى (شارل) في إعجاب شديد ثم قالت له في صوت خافت:

– هذا كرم منك يا سيدي.

الدكتور يزور المريض

فقال لها:

– إني أقوم بواجبي، والقيام بالواجب لا يعتبر كرماً.

وفحص الطبيب الرجل المريض فحصاً دقيقاً.

وألقى عليه العديد من الأسئلة.

وهز الطبيب (شارل وايت) رأسه في بطء وهو يفكر تفكيراً عميقاً.

وسألته السيدة في لهفة:

– ماذا يا دكتور؟

قال شارل:

– أعتقد أن دواءه عندي.

وصاحت السيدة وهي لا تصدق أذنيها:

– حقاً؟ إنه لا يتناول شيئاً من الطعام، وإذا أجبرناه على الأكل، لا تلبث معدته أن تلفظ كل ما أكله.

قال شارل:

– أعتقد أنه سيتناول اليوم وجبة شهية لن تلفظها معدته، تعالي معي.

وسألته السيدة

– إلى أين؟

لكي أعطيك الدواء.

وأعطاها مبلغا كبيرا من المال وقال لها:

– إن زوجك كما فهمت، رجل شريف وأمين، لذلك كان تأثير الخسارة التي أصيب بها كبيراً. إن جسمه سليم، ولكن حزنه وبأسه بعد خسارته، وتفكيره في مصيرك ومصير ابنته، كانت سبباً في أن يصاب بانهيار عصبي. وإن خير دواءٍ له هو هذه النقود، خذيها معك … على أن يشتري بها صفقة قمح ثانية، وإذا ربح أعيدي لي ما أعطيتك من مال.

حب لا يعرف الفرق

أما ابنتك (دورا) فسأتكفل بكافة نفقاتها حتى تتم دراستها في كلية الطب كما سبق وقلت لي.

الطبيب شارل وايت يعالج المريض - قصة قلب من ذهب

ولما أخذ الرجل المريض المال. شكر الله تعالى على الفرج من بعد الضيق، وقام في الحال إلى ثيابه فلبسها.

وربحت صفقة القمح كثيراً، وتزوج الطبيب من (دورا). ولم يعبأ بالمعارضة التي كانت، ولا بالفوارق بين البيض والسود. وكان (شارل وايت) من الهنود الحمر السود، لكن قلبه كان من ذهب.

المصدر
قصة قلب من ذهب - حكايات وأساطير للأولاد - منشورات المكتب العالمي للطباعة والنشر - بيروت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى