قصة الراهب برصيصا

قصة برصيصا هي قصة إسلامية عن راهب من بني إسرائيل ذكرت في كتب التراث الإسلامي وقيل إنها متعلقة بالآيتين 16 و17 من سورة الحشر. وفيها يروى أن برصيصا كان أعبد أهل زمانه وأزهدهم، وظل يتعبد لله سنينًا طوال في صومعته لا يعصي الله شيئا. فزين له الشيطان الزنا بامرأة فحملت منه فعمد إليها فقتلها، ثم أغواه الشيطان فسجد للشيطان ومات على ذلك.

وأما القيم التربوية التي يمكن استخلاصها من هذه القصة للأطفال، فربما تكون منها:

  1. التحذير من مكر الشيطان وخطورة اتباع هواه والانسلاخ عن طاعة الله.
  2. التذكير بأن العبادة لا تكفي لإدخال الجنة إلا إذا كانت مقرونة بالإخلاص والثبات على دين الله.
  3. التأكيد على أن الإسلام هو دين التوحيد والبراءة من كل ما يشرك بالله. وأن سجود الإنسان لغير الله هو كفر مخرج من الملة.
  4. التشجيع على التوبة من كل ذنب والإقلاع عن المعصية قبل أن يحضر الموت ولا ينفع الندم.

الشيطان عدو مبين للإنسان

هذه قصة قيمة أشار الله سبحانه إلى مغزاها في كتابه العزيز؛ فيها عظة وعبرة وتذكرة، أظهر فيها فضل العلم وشرفه. وبين أنه لم يتحل الإنسان بشيء أجمل من علم يفرق به بين الحق والباطل، ويميز به بين الشر والخير، ويعرف به ألاعيب الشيطان وحيله ومكره وخداعه.

والشيطان يتربص بالإنسان الدوائر، ويريد أن يوقعه في المهالك، ولا يأتي الشيطان من باب الشر مباشرة. لأنه لو فعل ذلك لفطن له كل الناس، وما استطاع أن يوقع أحداً في المعصية مهما كان. ولكنه يأتي الإنسان في صورة الناصح الأمين، فينصب حبل المكر والخديعة ليصطاد بها العباد ويوقعهم بذلك في الشر. ولا يتفطن لحيله وألاعيبه إلا من أوتي علماً وفطنة، وذكاء ومعرفة، وقوة إيمان. ويعرف أن ما هو فيه وسوسة بالشر من تلبيسات إبليس اللعين، فيبتعد عن طريقه ويزداد حذراً منه. أما إن كان جاهلاً غافلاً ساذجاً يرى الحبة ولا يرى الفخ، فإنه يقع فيما رآه مباشرة، ولا يحترز منه. ويظن المسكين أن الحبة طعام له، وإنما هي طعم يصطاد به.

وليس للشيطان طريقة واحدة للإغواء، بل له طرق ملتوية متشعبة كثيرة. وكلما كان الإنسان أكثر علماً، وأقوى إيماناً وإخلاصاً لله تعالى، كلما ازداد معرفة بهذه الطرق. فلا يغتر ولا ينخدع بها، يبدو ظاهرها خيراً لكنها تخفي أشياء كثيرة. إن هي إلا طرق مهلكة، من سار عليها أدت به إلى معاطب، وإلى الهلاك.

برصيصا يتفرغ للعبادة

لنذكر الآن القصة الشيقة طلباً في الزيادة من العلم، ليقوى حذرنا من الشيطان وحيله. فقد كان في زمن قديم رجل من عباد بني إسرائيل وصالحيهم، لا يصاحب أحداً. كان منصرفاً إلى عبادة الله وحده وطاعته قدر المستطاع؛ يكثر من الصلاة والصيام والتسبيح والتهليل، وكل وقته عامر بطاعة الله وذكره.

لما علم هذا العابد أن وجوده مع الناس يمنعه من التفرغ التام لعبادة الله عزم على أن يعتزلهم. ورأى أن ذلك أهنأ لقلبه، وأرضى لربه، وأفرغ لوقته، فابتنى لنفسه صومعة من الطين خارج المدينة. وجهل هذا المسكين أن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من ذلك الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم. ففي الناس من فيه خير وفيه غفلة، يحتاج إلى من يذكره ويرشده، فإذا خلت الأرض من مرشد وناصح، هلك بسبب ذلك ناس كثيرون.

بقي ذلك العابد على حاله تلك سنين طويلة، أما أهل القرية فكانوا يعظمونه جداً لصلاحه وإخلاصه وزهده.

تآمر على برصيصا

وقد حاول إبليس اللعين مراراً وتكراراً أن يثنيه عن عزمه، وأن يغويه (يضله) واستعمل معه كل وساوسه، وإغراءاته، وحيله وخدعه. ولكنه فشل في إغوائه لصلابته في الدين، وقوة تمسكه به؛ إذ ليس له وقت يضيعه. والشيطان إنما يدخل على الإنسان حين الغفلة والسهو. أما هذا العابد فأنفاسه ولحظاته كلها عامرة بذكر الله وفعل الخير، فمنافذ الشيطان مغلقة، وأبوابه التي يدخل منها مُوصدة. جمع الشيطان اللعين أبناءه وأحفاده، وقام فيهم خطيباً وقال: من لي بالعابد برصيصا، قد أعياني، وما استطعت إغواءه، فقام أحدهم ملبياً لنداء كبيرهم وقال: أنا له.

ذهب هذا الشيطان وأخذ يدبر المكائد كي يسقطه في حباله، إلى أن وصل إلى مكيدة دبرها تدبيراً، وأحكم تخطيطها. قصد امرأة من بنات الأشراف، وأخذ يوسوس لها ويجول بخاطرها ليلاً ونهاراً إلى أن خضعت له. فاغتنم اللعين غفلتها فتلبس (اختلط) بها، فأصيبت بإغماء شديد، ولما أفاقت صارت تهذي كالمجنونة.

الشيطان يوسوس ويخطط

احتار أهلها فيما يفعلونه معها، وما السبيل إلى علاجها، وبحثوا لها عن معالج فتلبس (هنا بمعنى تنكر) إبليس اللعين وتشكل على صورة رجل صالح يداوي الناس من الأرواح الخبيثة، وتظاهر أمامهم بالتقوى، ولما استعمل التعاويذ ليغريهم أكثر، قال لهم: إن أختكم قد تلبس بها عفريت مارد قوي، وأنا ضعيف أمامه لا أستطيع إخراجه، وإني أخاف على أختكم منه، ونصيحتي لكم أن تذهبوا بها إلى رجل صالح فهو قادر على إخراجه وطرده، لأن هذا العفريت لا يخاف أحداً إلا ذاك الرجل، قال إخوتها الثلاثة: ومن هو هذا الرجل الصالح، وأين نلقاه؟ قال لهم: إنه العابد برصيصا الذي يسكن الصومعة، وإني أعلم أنه لن يقبل رقيتها ولكن ألحوا عليه في الطلب.

ذهبوا بها إلى العابد برصيصا، ولما وصلوا إلى صومعته نادوه باسمه، فنزل إليهم، وشرحوا له الموقف. وطلبوا منه أن يرقيها ولكنه رفض أشد الرفض. وما زالوا يلحون عليه، ويرثون (يرقون لحالها ويرحمونها) له حال أختهم أمامه. وأختهم أمامهم ملقاة على الأرض، فرق لحالها، ووافق على طلبهم. واشترط عليهم ألا يدخلوها صومعته، بل يبنون لها أمامه صومعة أخرى ليرقيها بين الحين والحين.

تركوا أختهم عنده، وفي اعتقادهم أنهم وضعوها عند رجل أمين لا يخون، وهو للعرض يصون، فرقاها، وأخذ يتردد عليها. ويقرأ عليها التعاويذ التي تحصنها من الشيطان الرجيم، فشفيت من مرضها لأن الشيطان الذي وسوس لها وتلبس بها أطلقها. وأخذ برصيصا يأتيها بطعامها إلى صومعتها، وكان يضعه أمام الباب، ثم يصعد صومعته فيناديها لتفتح الباب وتأخذ الطعام. وسوس له الشيطان في أول الأمر أن يكلمها لأنه أجبر لخاطرها، وأنس لوحشتها، فكان يكلمها من أعلى الشرفة.

وسوسة من الدرجة الرابعة

ما زال الشيطان به إلى أن وسوس له ليجلس أمامها ليعلمها الدين والحكمة، ولما خلا بها ضعف أمامها، وخارت عزيمته وثارت شهوته، ففجر بها، وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما. والشيطان لا يأتي من باب الشر مباشرة كما سبق الكلام من قبل، بل يأتي من أبواب ظاهرها خير، ولكنها مكائد ليوقع بها العباد في شباكه، ولذلك حذرنا الله سبحانه من أن نتبع خطوات الشيطان لأنه عدو مبين، وخطواته تؤدي إلى المهالك.

ولما أحبلها وصارت حاملاً منه، احتار في أمره وما يفعل، خاف على نفسه الفضيحة، جاءه الشيطان مرة أخرى موسوساً، وللشر داعياً وعن الخير ناهياً، فقال له: أرأيت لو جاء إخوتها، ما تقول لهم، والحيلة في الخروج من هذا المأزق الذي أنت فيه أن تقتلها هي وابنها، وإذا جاء الإخوة فقل لهم: إن الشيطان قد خنقها فماتت، وهم يصدقونك لأنهم يعهدوا منك الكذب، وهكذا يدفن سرك ولا يطلع عليه أحد.

وسوسة من الدرجة الخامسة

عمل برصيصا بوساوس الشيطان المعسولة، وظن أن الأمر ينتهي إلى هذا الحد، وجهل المسكين أن الشيطان اللعين لا يوقعه في ورطة إلا ليزج به فيما هو أعظم منها، فقتلها ودفنها، ثم انصرف إلى العبادة مرة أخرى، ولكن العبادة التي لا تنهى عن المنكر خدعة من الشيطان.

جاء إخوتها يسألون عن حالها، وليأخذوها معهم، فقال لهم برصيصا: إن الشيطان خنقها فماتت، وقد أحسنت دفنها، فصدقوه بما أخبرهم به ثم انصرفوا إلى مساكنهم، وبينما هم في نوم عميق إذ جاء الشيطان إلى أخيهم الأكبر في المنام قائلاً: إن أختك قتلها العابد برصيصا ولم تمت حتف أنفها (أي لم تمت موتا طبيعيا).

ثم جاء إلى الأخ الأوسط في المنام، وقال له نفس الكلام، ثم جاء الأخ الأصغر وقال له الكلام نفسه، ولما أصبحوا تلكؤوا (أبطؤوا وتوقفوا) في الكلام، وما صدق أحدهم المنام الذي رآه، وما استطاع أحد أن يشك في برصيصا، وفي الليلة الثانية فعل معهم الشيطان كالليلة الأولى، ولما أصبحوا لم يتكلم أحد عما رآه، وفي الليلة الثالثة رأوا نفس المنام، ولما أصبحوا، قال الأخ الصغير : تعلمون يا إخوتي أني قد رأيت شيئاً ما استطعت أن أبوح به، قالوا: قل ولا تخف، فقال: إني رأيت كذا وكذا، فقال الإخوان: ونحن كذلك رأينا ما رأيته، وأجمعوا أمرهم ليتحققوا في الأمر فذهبوا إلى الملك وأخبروه الخبر.

بعث الملك الجنود إلى العابد فأنزلوه من صومعته، وهددوه إن لم يخبرهم بالحقيقة ليضربنه، فأخبرهم بالقصة على حقيقتها، وذهبوا إلى موضع قبرها، فنبشوه وأخرجوا منه جثة المرأة المسكينة، هالهم ما رأوه فرفعوا أمره إلى الملك الذي أمر بقتله.

كفر برصيصا وتبرؤ الشيطان منه

وجاء الشيطان إلى برصيصا وقال له: أنا الذي أوقعتك فيما وقعت فيه؛ زينت لك المرأة إلى أن فعلت ما فعلت، ولكن لن أتخلى عنك، فإذا فعلت ما آمرك به لأنجينك من المشكلة التي أنت فيها، فقال: وماذا تريد مني الآن؟ قال إبليس: أن تسجد لي سجدة واحدة.

يا له من أمر عظيم! منذ ستين سنة لم يسجد هذا العابد إلا لله وحده لا شريك له، والآن يطلب منه إبليس اللعين أن يسجد له، خاف برصيصا على نفسه، وأراد الإبقاء على حياته، وسجد للشيطان سجدة، فلما قام من سجدته قال له إبليس: “إني بريء منك”، فلو أن برصيصا تدارك ما فاته وتاب إلى الله، ولم يتابع إبليس اللعين لغفر له، ولكن إبليس بمكره وخداعه لم يرد أن يوقعه في المعصية التي يتاب ويستغفر منها، أما الذي لا يغفره الله إن مات عليه الإنسان ولم يتب – فهو الكفر والشرك به سبحانه.

وهذا هو الذي فعله إبليس مع برصيصا. فالمعصية بريد الكفر، أوقعه في المعصية في البداية، وهون عليه أمرها واستصغر فعلها. ثم أوقعه فيما هو أعظم من المعصية الذي هو الكفر بالله سبحانه، فسجد لإبليس. والله تعالى يقول في كتابه العزيز: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ النساء،116. وهذا أعلى ما يتمناه إبليس، ولذلك كان مصير برصيصا والشيطان نار جهنم خالدين فيها.

وإلى هذه القصة أشار الله سبحانه في سورة الحشر في الآيتين (16-17): ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)﴾ والشرك بالله والكفر به هو أعظم الظلم، كما أن الإيمان بالله وتوحيده أعظم الطاعات.

وهذه العاقبة والنهاية السيئة لا تخص برصيصا وحده، بل هو جزاء من كان على طريق برصيصا، ومن اتبع الشيطان في وساوسه، فلا غرابة أن يكون مآله كمال برصيصا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى