قصة جاك المصباح

قصة جاك المصباح هي حكاية وقصة خيالية مقتبسة من التراث العالمي تحكي عن خطورة التبذير في المال أو البخل الشديد وأهمية الاعتدال دون إفراط وتفريط.

جاك السمكري

كان جاك المصباح سمكريا بارعا يعمل في إصلاح المصابيح. وكان مجتهدا في عمله، فما إن تدق الساعة دقاتها الثماني، صباح كل يوم، حتى تراه وقد فتح باب مشغله الصغير في سوق البلدة، وانصرف إلى العمل.

وكان يجني من عمله مالا كثيرا لأن الزبائن تهافتوا عليه نظرا لبراعته ودقته في العمل. لكنه كان كريما حتى التبذير. وكان من عادته، متى انتهى من عمله مساء كل يوم، أن يعرج على السوق فيشتري اللحوم والخضر حتى لا يبقى في جيبه! إلا القليل من غلة يومه في العمل. ثم يمر على أصحابه ويدعوهم إلى تناول طعام العشاء معه في بيته.

وكان في حديقة بيته شجرة تفاح يقطف منها بعض ثمارها الناضجة قبل أن يدلف إلى البيت ويقول لامرأته:

– خذي وزيني المائدة بهذا التفاح الشهي. ثم حضري لنا طبيخاً مع اللحم، ومشاوي على الفحم، وما لذ وطاب.

تبذير وإسراف

لا تجرؤ الزوجة على الاعتراض، وتكتفي بأن تقول:

– حاضر. كم عدد المدعوين إلى العشاء الليلة؟

فإذا أجاب عن سؤالها انصرفت إلى المطبخ صامتة صاغرة. لقد كان جاك المصباح، ويا للأسف، فظا مع امرأته بقدر ما كان لطيفا مع عشرائه. يقسو على الأولى، ويترفق بهؤلاء، فلا تحتج وهي العليمة بأن الاحتجاج يزيده عنادا، بل كانت حين تأنس منه بعض التلطف تنصحه فتقول:

– يا جاك، أنت مفرط في السخاء حتى التبذير، تبدد المال على أصحابك، حتى أصبحنا لا ندخر قرشا أبيض لليوم الأسود. إذا حلت بنا مصيبة، لا سمح الله، أو أدركتنا حاجة إلى المال، فمن أين نأتي به؟ هل يقرضك ضيوفك مالا؟

وكان جاك إذا سمع هذا الكلام المعقول، الحكيم، يثور ويصرخ قائلا:

– ما أنت يا امرأة إلا نذير شؤم، لا تنتظرين غير المصائب، ولا تتحسبين إلا للويلات. كفي عن هذا الهذر، وأذكري أني أكسب من عملي كثيرا، ولا تخافي غدر الزمان.

وتقول المسكينة:

– وإذا حدث ما ليس بالحسبان ومنعك عن العمل؟

ويصيح وقد هاجه غيظ شديد:

– أتريدين أن أفقد أصحابي؟ ألا تعلمين أن الكرم فضيلة وأن البخل رذيلة؟

وتسكت المرأة حتى يهدأ، وتقول له:

– صحيح أن الكرم فضيلة، لكنك من المبذرين، والتبذير رذيلة.

من علمك هذه الفلسفة البغيضة؟ اعلمي أن من أعطى حقاً أعطى من دون حساب. ولا تصدقي كلام أمك وهي الحريصة على المال.

وينتهي الجدل إلى غير طائل.

واستمرت الحال على هذا المنوال زمنا طويلا حتى حدثت المفاجأة ووقع المقدور. دهم المرض جاك السمكري. نعم، دهمه مرض التخمة (عسر الهضم). وصار يعاني مغصا حادا يمزق أحشاءه. ونصحه الطبيب بملازمة الفراش، ولزوم أسباب الحمية والوقاية، وأشار عليه بتناول بعض الأدوية. وإلا فإن المرض قد يفتك بصحته ويقضي عليه.

وخاف المسكين سوء العاقبة، فقبع في بيته لا يبرحه.

مرض جاك

ولجأت زوجته إلى صرف القليل من المال المدخر وقد استطاعت توفيره من مصروف البيت. صرفته على الدواء. أما زوجها، وقد صار عاطلا عن العمل، فقد تخلى عنه أصحابه ولم يسألوا عنه.

ولولا شجرة التفاح في حديقة البيت لكان مات جوعا. ولكن من أين يأتي بثمن الدواء؟ فكر قليلا في الأمر حتى قر رأيه على أن يشكو حاجته إلى معارفه وقد طالما سخا عليهم وأنجدهم وقت الحاجة. وأرسل في طلبهم فتجاهل الكثيرون نداءه. وقد عاده القليلون، فكان يلمح أمامهم إلى حاجته إلى المال فيتجاهلون الأمر، ويختلقون الأعذار للانصراف ولا يرجعون من بعد.

وكان على زوجته العاقلة أن تتدارك الأسوأ. ما تراها فعلت؟

أقبلت عليه ذات يوم تسأله بهدوء وكأبة:

– لم يبق معنا فلس واحد، من أين نأتي بثمن الدواء؟

وأثر في نفسه حزنها العميق، فقال بعد تفكير:

– ليس في اليد غير حيلة واحدة. هل تعلمين ما هي؟

– هل تعرف صديقا لك مخلصا ميسوراً يهب إلى نجدتنا؟

– لا تذكريني بأصحابي. هؤلاء ليسوا إلا أصدقاء بطونهم.

– تدخر أمي بعض المال، فهل تريد أن …؟

قاطعها هاتفا بحنق:

– يا للعار! أتريدين أن أبسط يدي نحو أمك أتسول منها؟

– ما العمل إذن يا جاك؟ يزداد ألمك، وأنت إن لم تتناول الدواء، مهدد بما هو أعظم. هيا، قل لي ما هي الحيلة الباقية؟

وأجال جاك طرفه في أرجاء البيت وقال:

– لا مفر لنا من بيع بعض أغراض المنزل، هذه المقاعد، تلك السجادة، ذلك المصباح.

ووافقت المرأة على مضض، وهكذا كان. وباع جاك أغراضا منزلية كثيرة ثمنا للدواء والطعام. باعها بأبخس الأثمان. ولكنه واظب على تناول الدواء في مواعيده حسب إشارة الطبيب.

وحين راح يتماثل من مرضه، نظر من حوله فعلم أنه لم يعد يملك من متاع بيته إلا المقعد الذي يجلس عليه، ومن الدنيا سوى شجرة التفاح والبيت والحديقة.

عظة وعبرة

وشعر كأن غشاوة زالت عن عينيه فأبصر الواقع المرير. وراح يشعر بالندم على ما وقع فيه من عناد، وقلة تبصر في الواقع، وسوء تقدير للعواقب. وبكى على نفسه وهو يرى ما آلت إليه حاله من بؤس، ومن تخلي أصحابه عنه. وصمم على أخذ العبرة، والعودة إلى العمل، والإقلاع عن الإسراف والتبذير. ونادى امرأته، وقال لها بعمق ولطف لم تعهدهما فيه من قبل:

– علمني هذا المرض دروسا كثيرة. أولها أن أمدح فيك حكمتك وطول صبرك معي. وثانيها أن الصديق عند الضيق، لا على مائدة الطعام. وثالثها أن أدخر مالي لوقت الحاجة إليه. وقد عزمت على ألا أستقبل أحدا في بيتي، ولا أبذل مالي لأحد، ولا أقطف من شجرة التفاح أكثر من ثمرتين اثنتين في اليوم الواحد، الأولى لك، والثانية لي.

وعلقت على كلامه فقالت برفق:

– أراك يا جاك تعلمت من التجارب، وهذا حسن. وعرفت صواب رأيي، وهذا أيضا حسن. لكنك تنتقل من التبذير، إلى البخل الشديد، وكلاهما خطأ.

– ما تعني هذه الفلسفة العويصة يا امرأة؟

– تعني أن الاعتدال خير فلسفة وطريقة في التصرف. خير الأمور أوسطها. أي كن كريما ولكن باعتدال، من دون تبذير. وكن مقتصدا في الإنفاق، ولكن باعتدال، من دون تقتير.

وثار جاك على عادته فقال بحنق:

– لا اعتدال ولا من يحزنون. سأعمل ما نويت عليه، فلا تتدخلي في شؤوني.

ولما انقضت أيام النقاهة، حسب ما أشار به الطبيب، عاد جاك السمكري إلى عمله. وتهافت عليه الزبائن، كما في السابق، فتدفق عليه المال. فماذا فعل أصدقاؤه؟

من التبذير إلى البخل

عرف أصحاب جاك بعودته إلى مزاولة عمله وكسب المال، فصاروا يترددون عليه متى عاد في المساء. ولكنهم ما كانوا يرون التفاح يزين مائدة الطعام، ولا طعاما على المائدة. ولا يجدون للجلوس إلا مقعدا واحدا. وكانت امرأة جاك، بطلب منه، لا تقدم إليهم شيئا من واجبات الضيافة، فأقلعوا عن زيارته إلا واحدا منهم كان ما زال يطمع بسخاء جاك فظل يتردد عليه فيتربع على المقعد الوحيد، وحين لا يظفر بشيء من طعام أو شراب ينصرف. وفي الحديقة كان يمد يده إلى شجرة التفاح فيقطف تفاحة، ويمضي في سبيله.

وذات يوم جاء صاحب آخر يشكو إلى جاك حاجته إلى المال قائلاً بانكسار:

– إن ابني مريض يا جاك، ولا أملك ثمن الطبيب أو الدواء. وإني أتوسل إليك أن تتكرم على ببعض المال، رحمة بولدي.

وأصم جاك أذنيه عن سماع الرجل. وظل هذا يبكي وينتحب حتى رقت له نفس الزوجة، فتناولت بعض المال نفحت به الرجل، في غفلة من زوجها، وأعطته بعض ثمار التفاح، وانصرف شاكراً.

وفي الصباح، وجاك خارج إلى عمله، التفت إلى شجرة التفاح فلمح أنها نقصت من الثمار، فعاد خلسة إلى بيته وتفقد المال فعلم أنه ناقص أيضاً، فثار، ونادى امرأته وصاح بها، قائلاً:

– لمن أعطيت من النقود والتفاح؟

واعترفت لتوها فقالت:

– لصاحبك حتى يداوي ولده المريض، كان هذا عمل خير ضرورياً. لا تغضب يا جاك.

لكن جاك غضب وانهال عليها تقريعا ثم غادر البيت على عجل، وقصد رجلا من البلدة بهلوانا يدعي السحر ويقوم بأعمال الخفة. قال جاك للبهلوان:

– علمني حيلة تجعل من جلس في بيتي على المقعد يلتصق به فلا يستطيع النهوض إلا بحيلة أخرى عكس الأولى. وعلمني أيضاً حيلة تجعل من مد يده إلى كيس المال لا يقدر من بعد على سحبها منه إلا بحيلة عكسها. وعلمني حيلة تجعل من يمد يده إلى شجرة التفاح ليقطف ثمرة لا يستطيع الفكاك من الشجرة إلا بحيلة تناقضها.

مكر وخديعة

وحك البهلوان رأسه وفكر ثم أمسك بقلم وخط على قرطاس تعليمات كل حيلة من الحيل الثلاث، وعكس كل منها، وقال:

– يا جاك المصباح، اقرأ جيدا هذه التعليمات، وتمعن فيها، واصنع ما نصت عليه فيكون لك ما تريد.

وأعطي جاك بهلوان البلدة مبلغا من المال، وعاد إلى بيته فنفذ طلب البهلوان بحذافيره، في المقعد، والشجرة، وكيس المال.

وفي مساء اليوم نفسه، صدف أن جاء والد الصبي العليل يسأل جاك قليلا من المال يبتاع به الدواء لولده، وراح ينتحب وجاك يصده.

ورق قلب المرأة فغافلت زوجها ومدت يدها إلى كيس المال فعلقت يدها فيه وعجزت عن سحبها منه، وراحت تصيح وتستنجد حتى أتي إليها جاك وقال لها بدون أن يرف له جفن شفقة عليها:

– هذا عقابك يا امرأة.

– أرجوك ساعدني.

– ستبقين على هذه الحال ثلاثة أيام قصاصا حتى لا تعودي من بعد إلى الخطأ، وتحاولي أخذ المال من دون علمي.

ورأى والد الصبي ما جرى للمرأة، فخرج من عند جاك يائساً، وفي الحديقة حاول قطف تفاحة فالتصقت يده بغصن الشجرة. فأخذ يصيح طالبا النجدة. قال له جاك:

– هذا عقابك يا رجل. ستبقى كما أنت الآن أياما ثلاثة حتى تتوب عن السرقة.

وسمع الصياح الرجل الذي كان ما زال يتردد إلى بيت جاك كل يوم طمعا في كرمه، فلما رآه جاك دعاه إلى الجلوس على المقعد حتى يشرح له الأمر. وما إن استوى المسكين على المقعد حتى التصق به التصاقا، وحاول من فوره النهوض فلم يقدر، فراح يتوسل إلى جاك منتحباً:

– أرجوك، ساعدني على فك أسري.

– هذا عقابك يا رجل.

– وما ذنبي يا جاك؟

– ذنبك أنك تزورني كل يوم وتزعجني على أمل أن أعود إلى سالف عادتي من التبذير، وأنت في أيام مرضي وحاجتي ما رأيتك تعودني أو تمد لي يد المساعدة. عقابك أن تبقى ملتصقا بالمقعد ثلاثة أيام.

نهاية البخل

وفي اليوم الثالث عمد جاك إلى الحيل المعاكسة، ففك أسر زوجته أولا فسحبت يدها من الكيس وهي تتوجع، وتعد بأنها لن تمد يدها إلى الكيس في غفلة من زوجها لتتصدق بالمال على أي كان.

وحرر صديقه العاق المقعد فنهض وهو يتلوى من الجوع والوجع، وانصرف إلى غير رجعة.

وقصد أخيرا والد الصبي فأطلق يده من شجرة التفاح، ولكن الرجل حين أراد تحريك يده المحررة عجز عن ذلك، وأدرك أنها أصبحت مشلولة بدون حركة فيها، فراح يتوعد ويتهدد، وهرول نحو بيته قلقا على ابنه المريض.

وذاع الخبر في البلدة كلها فخاصم أهلها جاك، واتهموه بفقدان المروءة، والنخوة، وبالأنانية والبخل، وقاطعوه. وصاروا إذا خربت مصابيحهم يفضلون السير في الظلام الدامس على طلب إصلاحها على يد جاك.

هكذا فإنه وقد أدي به التبذير إلى الفقر، عاد التقتير فجلب عليه غضب الناس، والبؤس. وما لبث أن عاودته الأوجاع، ومات.

حين توفي جاك المسكين وفاضت روحه فإذا به واقف عند أبواب الجنة. وكانت أبوابها مغلقة. وراح يتوسل بصوت عال فلا يسمع توسلاته أحد.

ولما بح صوته عاد إلى نفسه يفحص ضميره فشعر بالندم. وعرف أن قد بات عليه التكفير عن ذنوبه.

وعاد جاك إلى بلدته طيفا، يرى الناس ولا يرونه، وصار في الليالي الحالكة يمسك مصباحا كبيرا مضاء، فإذا رأى أحدهم يخبط في الليل على غير هدى، أسرع نحوه حاملا المصباح ينير الطرقات الغارقة في الظلام.

وتساءل الناس طويلا عن سر هذا النور الذي ينبعث من مصباح خفي يهديهم في الليل ولا يرونه، وظلوا يتساءلون حتى أدركوا أخيرا أن جاك السمكري عاد إلى البلدة يكفر عن ذنوبه.

ومن ذلك الحين صاروا إذا ذكروا جاك لا يقولون السمكري، بل جاك المصباح.

وباتوا يرددون مع أرملة جاك الحكيمة:

– خير الأمور أوسطها. لا تكن أيها الإنسان مبذرا بل كريما، ولا تكن بخيلا بل مقتصداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى