قصة تمثال من الزبدة

نقدم لكم رحلة ساحرة وملهمة تتناول قصة تمثال من الزبدة سيرة الفتى الذي صارع محنة الحياة بمهاراته الفنية وروحه المبدعة. تأخذنا هذه القصة إلى عالم من الإصرار والفن. حيث اكتشف أنطونيو موهبته في نحت التماثيل، وكيف يمكن للأحلام أن تأخذ شكلًا حقيقيًا حتى من أبسط المواد.

هذه القصة تظهر أن كثيرًا من الأطفال يولدون وقد حباهم الله بكثير من المواهب. إن موهبة الطفل تحتاج إلى من يقدرها حقَّ قدرها ويرعاها، حتى تنمو هذه الموهبة وتزدهر ويشق الطفل طريقه بنجاح في الحياة.

طفولة أنطونيو

هذه القصة ليست قصة خيالية ابتكرها خيال مؤلف أو كاتب قصصي. ولكنها قصة واقعية تسرد جانبًا هامًا من تاريخ حياة فنان إيطالي عظيم، وهو المثال الراحل (أنطونيو كانوفا).

كان والد (أنطونيو كانوفا) يعمل في قطع الأحجار، وكانت له خبرة خاصة في قطع الرخام والمرمر. إذ المعروف أن إيطاليا تكثر بها جبال الرخام بألوانها المتعددة، ويُستخدم في تزيين المباني. كما يُصنع منه الفنانون المتخصصون التماثيل والتحف الرائعة.

والد أنطونيو كانوفا يتحدث إليه - قصة تمثال من الزبدة

ولم يكن والد (أنطونيو كانوفا) يعلم شيئًا عن صناعة التماثيل، إذ لم تكن لديه هذه الموهبة الفنية ولم يكن له صبر عليها. ولكن خبرته كانت مقصورة على اقتطاع كتل الرخام والمرمر من محاجرها.

ورزق بطفله (أنطونيو)….

وقضى (أنطونيو) سنوات طفولته الأولى كأي طفل عادي، إلا أنه جاوز الثالثة من عمره. ولبث عاجزًا عن الكلام، فقلق أبواه وخشيًا أن يكون ابنهما أبكم.

ولكن الطفل رغم ذلك كانت تبدو عليه إمارات الذكاء الشديد، وكان يفهم كل ما يدور حوله من حديث فهمًا تامًا. كما كانت تصدر عنه أحيانًا بعض الأصوات في حالة الفرح أو الغضب. وكان لا يميل كثيرًا إلى اللعب مع غيره من أطفال الجيران. بل يكتفي بالجلوس على عتبة الباب ويتأمل الأطفال وهم يلعبون، ولا يشاركهم لهوهم أو مرحهم.

وكان رغم طفولته شديد الاعتزاز بكرامته، وفيما أمه كانت تؤكد أنها باللين والملاطفة والمعاملة الحسنة يمكنها أن تجعل منه طفلاً مطيعًا في كل شيء. أما الضرب أو التهديد بالضرب فكان يجعل منه طفلاً عنيدًا لا يفهم شيئًا ولا يطيع أمرًا. ولاحظت أمه كما لاحظ أبوه أن الطفل كان عاطفيًا بطريقة غير عادية، فإذا أصابت أمه وعكة حنا عليها حنوًا شديدًا، ولبث إلى جانبها لا يفارقها ويلبي جميع طلباتها وكأنه أبوها لا طفلها الصغير.

موهبة فنية

وفي إحدى الليالي، بينما كان (أنطونيو) مستغرقًا في نوم عميق، سمعته أمه يتكلم فأرهفت سمعها، فوجدت الطفل يتحدث بطلاقة وهو نائم. فأيقظت زوجها، فلم يصدقها، ولكن حين اقترب وسمع، دهش كل الدهشة وتأكد له أن ابنه ليس بالأبكم كما كان يخيل إليه.

وتساءلت الأم بقلق: “لماذا لا يكلمنا؟”

الطفل أنطونيو كانوفا يستخدم الأدوات لنحت الصخر

قال الأب: “أعتقد أنه لا يريد أن يتكلم إلا بعد أن ينطق الكلمات كما ننطقها نحن. إنه كما تعلمين، شديد الاعتزاز بنفسه، ولا يريد أن يتكلم كالأطفال، لئلا يثير ضحكنا وسخريتنا. إنه طفل غير عادي، إنه شديد الذكاء وقوي الملاحظة. وسأقول له غداً، وأنا أمازحه، إنني سمعته وهو يتحدث حين كان نائمًا، وإنه يتحدث بطلاقة. وبذلك أشجعه على أن يتكلم معنا. ومن ناحية أخرى، سأفهمه أنه من الضروري أن يذهب إلى مدرسة الأطفال، ومن غير المعقول أن يظل مضربًا عن الكلام وهو في المدرسة.”

ونجحت خطة الأب، واتخذ من ابنه الطفل صديقًا له، فصار يصحبه معه وهو يقطع الرخام والمرمر، وخرج أنطونيو الصغير عن صمته.

وأرسله إلى مدرسة الأطفال، ولكنه لم يتحمس لتلقي العلم.

كانت الفائدة الوحيدة التي فاز بها (أنطونيو) الصغير هي أنه كان يعود من المدرسة بقطع من الصلصال اللين ويتسلى بتشكيلها وعمل تماثيل صغيرة منها.

ولاحظ الأب أن ابنه يشكل الصلصال اللين بطريقة بارعة لا تتناسب أبدا مع سنه. لقد صنع تمثالا لرأس كلب، وكان رائعا، فلم يغفل فيه أي تفصيل من التفصيلات الدقيقة الرأس الكلب.

وتوقع الأب أن يصبح ابنه مثالا بارعا إن هو تعهده ونمى فيه الموهبة، وشجعه على المثابرة عليها.

ففرح أنطونيو كثيرا بتشجيع أبيه، ثم انتقل إلى مرحلة أخرى بإشراف الأب، وهي عمل التماثيل من بعض قطع الحجارة والرخام والمرمر.

وبلغ من إتقانه في صنع هذه التماثيل الصغيرة، أنه كان يبيعها في الأسواق، ويقبل الناس على شرائها.

ولما بلغ (أنطونيو) التاسعة من عمره أصبح معروفا لدى عدد كبير من الناس، فكانوا يكلفونه بعمل بعض التماثيل والتحف الصغيرة.

الناس تشتري أعمال الطفل أنطونيو - قصة تمثال من الزبدة

ضائقة مالية

ولكن الأب كان يعلم أن ابنه لن يكون مثالا حقيقيا إذا اقتصر فقط على هذه الموهبة.

إن الموهبة الطبيعية لابد أن تصقل بالعلم ودراسة أصول الفن.

كان لا بد من أن يذهب بابنه إلى أحد كبار المثالين في مدينة روما لكي يعلمه ويصقل موهبته.

وتردد مع ابنه على أكثر من مثال، ولكنه ما لبث أن عدل عن هذه الفكرة إذ تبين له أن المثالين المشهورين يطالبون بأجور باهظة في مقابل قيام أحدهم بتعليم الصبي أصول فن النحت.

وكانت موارد الأب المالية لا تسمح له بأية حال من الأحوال بتحمل مثل هذه الأجور العالية.

ولكن الأب صمم على تدبير المال لتعليم ابنه حتى ولو أرهق نفسه في العمل.

كان إذا انتهى من عمله الشاق في قطع الرخام والمرمر يمارس أعمالا أخرى في المدينة، ويعود إلى منزله ليلا وهو على أشد ما يكون من التعب.

وكان في روما في ذلك الوقت رجل من كبار الأثرياء اسمه الكونت (بيانكو).

كان من عادة الكونت (بيانكو) أن يقيم في قصره الفخم الحفلات الكبيرة بين أونة وأخرى، وكان يدعو إلى هذه الحفلات كبار الفنانين، ورجال الأعمال.

وكان الإعداد للحفلة والإشراف عليها يجعل الكونت (بيانكو) يستعين برجال كثيرين غير خدم القصر سواء لإعداد المأكولات والمشروبات أم لتقديمها أم للقيام بخدمة ضيوفه العديدين.

فنان كبير يصنع تمثال في قاعة القصر

وذهب والد أنطونيو مع ابنه إلى قصر الكونت (بيانكو) ليكون من بين هؤلاء الذين يساعدون الخدم في الإعداد لإحدى هذه الحفلات.

فعل ذلك لكي يربح بعض المال الذي كان يدخره شيئا فشيئا لتعليم ابنه أصول من النحت.

كان عمل الأب في المطبخ الكبير في القصر، لأنه كان يعرف الشيء الكثير عن فن الطهي.

أما أنطونيو الصغير، الذي كان يرتدي أحسن ملابسه، فإن خفة حركته، ولطفه، جعلته يفور بعطف عدد كبير من المدعوين، ولا سيما سيدات الطبقة الراقية في روما اللواتي وجدن في نشاطه ودأبه على العمل نموذجا يختلف كل الاختلاف عن أطفالهم المرفهين.

اجتهاد أنطونيو

كان (أنطونيو) يقدم المشروبات في أدب جم وينحني في احترام، فكانوا يمنحونه بعض النقود الفضية فيسرع بها إلى أبيه ويعطيها له.

وابتدأ الخدم بإعداد الموائد في قاعة الطعام الكبيرة التي في القصر.

وكانت تتوسط قاعة الطعام مائدة رئيسية خصصت للكونت (بيانكو) وبعض وجهاء القوم وكبار الفنانين.

وكان الكونت (بيانكو) قد تلقى تمثالا من المرمر صنعه أحد كبار المثالين لأسد رابض فوق صخرة، فأراد أن يتباهى بهذا التمثال أمام مدعويه، ولذلك أمر رئيس الخدم بأن يضع التمثال على المائدة الرئيسية ويحيط به بالزهور وصحون الفاكهة النادرة.

وبينما كان رئيس الخدم يحمل تمثال الأسد الرابض ليذهب به إلى قاعة الطعام، زلت قدمه فسقط، وسقط منه التمثال الثمين على الأرض، فتحطم محدثا ضجة أتى على أثرها بعض الخدم ليتساءلوا عما حدث.

رئيس الخدم يسقط التمثال أمامه ويبكي - قصة تمثال من الزبدة

ووقف رئيس الخدم المسكين يلطم وجهه بيديه وهو يبكي قائلا: “سيطردني سيدي الكونت شر طردة.. إنه إذا جلس إلى المائدة الرئيسية ولم يجد التمثال سيسألني عنه.. ماذا أقول له؟ يا إلهي.. ماذا أفعل؟ وكيف أعد المائدة بدون هذا التمثال؟ …”

وانفجر الرجل في البكاء….

كان (أنطونيو) وأبوه يشاهدان مع غيرهما هذا المشهد المؤثر.

ولم يجد أحد من الموجودين حلا لهذه المشكلة أو مخرجاً لذلك المأزق الأليم الذي وقع فيه رئيس الخدم.

تمثال من الزبدة

وتقدم أنطونيو من رئيس الخدم وقال له: “وإذا صنعت لك تمثالا آخر ألا يحل هذه المشكلة؟”

ونظر إليه رئيس الخدم في استنكار، بينما ضحك الآخرون في سخرية.

أما والد (أنطونيو) فكان يعرف حقيقة أخلاق ابنه، ولكنه قال له: “متى يمكنك إنجاز التمثال؟ إن المائدة يجب أن تكون معدة بسرعة” …

فطلب الصغير القطع المحطمة…

وكان قد رأى في المطبخ كومة كبيرة من الزبدة البقرية الصفراء وقد جمدها البرد الفارس.

وخطر لأنطونيو أن يصنع تمثال الأسد من تلك الزبدة الصفراء المتجمدة.

وابتدأ الصبي بمهارته المعهودة ينحت التمثال مستعملا في ذلك السكين تارة وظهر الملعقة تارة أخرى.

كان أبوه ورئيس الخدم وبعض الخدم يشاهدونه وقد ابتدأت إمارات التعجب والإعجاب ترتسم على وجوههم وتزداد كلما استمر المثال الصغير في عمله.

كان ينظر بين لحظة وأخرى إلى التمثال المحطم ويشكل الزبدة في سرعة ومهارة نادرتين…

ولم يمض وقت طويل حتى كان قد انتهى من صنع التمثال، ولما ابتعد قليلا عنه ليتأمله، لم يتمالك رئيس الخدم نفسه من أن يصيح: “أراهن بعمري أن هذا التمثال أحسن بكثير من التمثال الذي تحطم.. إن الأسد يكاد يزار.”

وكان بالفعل تمثالا رائعا…

وحمله رئيس الخدم في حرص وعناية ثم ذهب به إلى قاعة الطعام، وأحاطه بصحون الفاكهة النادرة وبالزهور الزاهية الألوان كما أمر الكونت (بيانكو).

ودخل المدعوون والمدعوات إلى قاعة الطعام.

الطفل أنطونيو الفنان يصنع تمثال من الزبدة

ولفت التمثال أنظارهم جميعا فوقفوا يتأملونه بإعجاب ودهشة كبيرين.

وكان أكثرهم دهشة وإعجاباً المثال الكبير الذي كان قد صنع التمثال المرمري الذي تحطم.

بداية نحات عظيم

لقد صاح هذا المثال: “ما هذا التمثال الرائع يا سيدي الكونت؟ إنه أحسن من تمثالي! وما هذه المادة الصفراء اللامعة التي صنع منها؟”

وسأل مثال آخر الكونت: “ما اسم هذا المثال الذي صنع هذا التمثال يا سيدي؟”

كان الكونت بيانكو نفسه لا يعرف شيئا عن التمثال أو من صنعه. وقال متعجبا: “إنها مفاجأة لي كما هي لكم. إني لا أعرف شيئا عن المصنوع والصانع.”

وصاح المثالون: “لا بد أن نعرف اسمه”، وعلموا من رئيس الخدم أن الذي صنعه صبي صغير وفي أقل من ساعة.

وتزايدت صيحات التعجب وعدم التصديق حتى أحضر الغلام، فالتف حوله الجميع، وقربه الكونت منه وقال له:

– “ما اسمك يا بني؟”

– “اسمي أنطونيو كانوفا.”

– “هل أنت الذي صنعت هذا التمثال الرائع؟”

– “نعم، أنا.”

– “إنه قطعة فنية عظيمة، استحوذت على إعجاب كبار المثالين الذين تراهم هنا، وإني أهنئك من كل قلبي.”

– “شكراً يا سيدي.”

– “من علمك فن النحت؟”

قال الصبي: “لم يعلمني أحد شيئًا، إن والدي شجعني على ذلك وهو يعمل في قطع الرخام والمرمر، وكان يتمنى أن يذهب بي إلى أحد كبار المثالين ليعلمني، فطلبوا أجوراً كبيرة، لذلك يواصل والدي العمل ليوفر لي المال اللازم لتعليمي.”

فأجابه الكونت: “أنت وأبوك ستقيمان معي في القصر، وسأحضر أعظم المثالين في روما لتعليمك على نفقتي.”

قال أنطونيو الصغير: “شكراً يا سيدي، ولكن لا يمكنني أن أترك والدتي وحدها إذا أقمت أنا وأبي معك هنا.”

ضحك الكونت قائلاً: “إنك فنان أصيل، لأن قلبك يفيض بالرحمة، لن تترك والدتك وحدها لأنها ستعيش معكما بالقصر.”

قال أنطونيو: “لا أدري كيف أشكرك يا سيدي الكونت.”

وأقبل أنطونيو على تعلم فن النحت برغبة شديدة، وهكذا ربحت إيطاليا فنانًا ومثالًا لا يجارى، وتعتبر التماثيل التي صنعها من أثمن القطع الفنية التي تعتز بها متاحف العالم.

وكان أول شيء فتح أمامه أبواب المجد والعظمة ذلك التمثال الذي صنعه من الزبدة.

المصدر
قصة تمثال من الزبدة - حكايات وأساطير للأولاد - منشورات المكتب العالمي للطباعة والنشر - بيروت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى