قصة البائعة الصغيرة

قصة البائعة الصغيرة هي قصة حزينة خيالية ولكنها مستوحاة من الواقع المؤلم، تعلم الأطفال عن نعمة الأهل والمنزل والدفيء وضرورة الاهتمام بالأخرين الأضعف منا ومساعدتهم.

فتاة صغيرة

كان في إحدى المدن، فتاة صغيرة، شقراء، في غاية الجمال، وفي غاية الفقر معاً. وكانت يتيمة الأم، لا تتذكر وجه أمها، ولا تقول: «ماما» إلا في الأحلام.. وكان اسم الفتاة «ياسمينة».

وكان أبوها عاطلا عن العمل، يئس من الحياة بعد موت زوجته، فانزوى في بيته الحقير، وانصرف إلى حرفة لا تكلفه مالاً، حتى يكسب ما يسد به رمقه، ويقوم بأود ابنته فكان يأتي بعلبة من الخشب يزينها برسوم شتى، زاهية الألوان، ثم يملأها بعيدان الكبريت. ومتى صار بين يديه مجموعة من تلك العلب دفعها إلى ابنته.

وعند شروق الشمس كانت «ياسمينة» تحمل علب الكبريت الملونة، وتجول في شوارع المدينة تعرضها على المارة. وكانت تلبس ملابس بالية، وينسدل شعرها الأشقر على كتفين هزيلتين من الجوع، فيرثي بعضهم لحالها ويشتري علبة كبريت. أما معظمهم فكانوا لا يلتفتون إليها، أو يشيحون بنظرهم عنها، وكأن منظر فتاة فقيرة صغيرة يسبب لهم الضيق والانزعاج.

وكانت في بعض الأيام تعود الى البيت وقد ساء حظها فما باعت ولا كسبت، فيغضب أبوها، ويتهمها بالبلادة، فتنطرح المسكينة على فراشها الحقير، منهوكة القوى، وتبكي بصمت، وهي ترتجف من قسوة البرد، لأن مدفأة البيت كانت خرساء دائما، لا حطب فيها ولا نار.

ومرت أعوام على تلك الحال. وذات عام، ورأس السنة يقترب، راح الأولاد يملؤون الشوارع مع أهلهم، يقصدون محلات الأحذية والثياب، ومخازن الهدايا والألعاب، ويخرجون منها بالأكياس الملآى، وهم يكادون يطيرون من الانشراح والفرح.

و«ياسمينة» اليتيمة الفقيرة، بائعة علب الكبريت، واقفة على الأرصفة تتأمل فيهم، عيناها تغصان بالدمع، لا يلتفت إليها أحد، يصطدم بها الأولاد أنفسهم، ولا يعيرونها اهتماما، فكأنهم فقدوا باكرا مشاعر العطف الطيبة.

احتفال رأس السنة

ولما حلت عشية رأس السنة، كان والد «ياسمينة» قد انتهى من تزيين عشرات العلب، فنادى ابنته، وقال لها: “يا بنتي، تفصلنا ساعات معدودة عن نصف الليل، رأس السنة الجديدة. ولا شك في أن الناس في الشوارع يشترون ما تبقى من أهبة العيد. خذي هذه العلب من الكبريت، ولا ترجعي إلى البيت إلا وقد بعتها جميعا، ولا تنسي أن اليوم هذا أفضل مواسم البيع. تنشطي واستغلي هذا الظرف الثمين”.

وحملت الفتاة علب الكبريت، وهي تقول: “سمعا وطاعة يا أبي، سوف أحاول بيعها جميعا”.

وخرجت وهي ترجو أن تلقى النجاح … لكن سوء الحظ رافقها منذ الخطوة الأولى خارج البيت.

ما إن خرجت المسكينة من البيت، حتى تلقتها في الشارع عاصفة من الريح عنيفة، ومطر غزير. وكان البرد قارسا حتى ان أغصان الشجر كانت ترتجف منه. وكانت «ياسمينة» لا ترتدي من الثياب ما يقيها لسع الصقيع، فاصطكت منه ركبتاها، وشعرت بأن يديها تتجمدان حول علب الكبريت.

وأسرعت تتوقى المطر والريح تحت شرفات المنازل. وكانت الشوارع، على الرغم من البرد، تغص بالمارة يدلفون إلى المتاجر أو يخرجون منها، متلفحين بالمعاطف، اتقاء للمطر المنهمر، لا يلتفتون يمينا ولا شمالا.

وحاولت أن تعترض سبيل بعض المارة المهرولين، وهي تبسط نحوهم يديها بعلب الكبريت، لكنهم تجنبوها متأففين، فيما سقط المطر على العلب الملونة فبللها وشوه ألوانها الزاهية. وعادت تستند إلى جدار، تحت شرفة عالية، تصيح بصوت ناعم: “كبريت… علب كبريت ملونة… كبريت رأس السنة!”.

ويقصف الرعد، فيضيع صوتها بين البرق والرعد وصفير الريح، فلا يسمع نداءها أحد، ولا يلتفت إليها إنسان…

وبقيت ساعات على تلك الحال حتى بدأ نصف الليل يقترب، فخفت حركة الناس في الشوارع، وراحت المحلات تقفل أبوابها واحداً بعد آخر، والفتاة لم تصادف من يشتري علبة واحدة، وأنهكها قرس البرد، وباتت وكأن عظامها تئن من الصقيع.

منزل قاسي

وكاد يصيبها اليأس فتساءلت: “هل أبقى في هذه العاصفة عبثاً حتى أموت من البرد؟ لا بد من العودة إلى البيت. إني قمت بواجبي ولم أفلح، فما ذنبي؟ … “.

ونظرت فوجدت الشوارع وقد خلت من الناس، فأيقنت أن منتصف الليل أوشك وقوعه، فراحت تعدو نحو بيتها، فما بلغته إلا والمطر بلل شعرها وثيابها، وصارت في حالة يرثى لها، وقد أمسكت بعلب الكبريت تشدها إلى صدرها خوفا على ما بقي من ألوانها.

فما فعل أبوها؟

التفت أبوها إلى علب الكبريت، وأحصاها، فعرف أن عددها لم ينقص بل فتك بألوانها المطر والريح، فصاح قائلا: “ويحك! ماذا صنعت بعلب الكبريت؟”

وخفضت رأسها وهي تجيب بلهجة المغلوب على أمره: “لا هدأت الريح، ولا كف المطر، وما التفت إلى أحد”.

فرد أبوها قائلاً: “كان عليك، على الأقل، حماية علب الكبريت من التلف. أين رسومها؟ أين خطوطها وألوانها الزاهية؟ تباً لك من فتاة طائشة. أما وعدت ببيع العلب كلها؟ وتكذبين؟”

وراحت الصغيرة تنوح وتبكي، وأبوها لا ينفك ينهال عليها لوما وتقريعا. ولم تر بداً من العودة إلى الشارع. من يدري، فربما ابتسم لها الحق والتقت رجلا طيب القلب يشتري بعض علب الكبريت.

وعادت «ياسمينة» إلى الشارع، فهل تخلى عنها سوء الطالع وابتسم لها الحظ؟

كانت الشوارع خاوية خالية إلا من بعض الكلاب الشاردة. وقد بلغ العيد ذروته عند منتصف الليل، وما زال الناس في بيوتهم يحتفلون كبارا وصغارا بحلول العام الجديد. وكانت أغانيهم وصيحات ابتهاجهم تخترق النوافذ المغلقة، وتتساقط على سمع بائعة الكبريت. وأكثر ما كان يؤلمها، صيحات الأولاد المبتهجين وهم في مثل عمرها، لا لأنها تحسدهم على فرحهم، بل لأنها تغبطهم على أهلهم وبيوتهم التي يشيع فيها الدفء، إذ إن المواقد العامرة بالحطب تتصاعد منها ألسنة النيران الحمراء هازئة بالبرد والصقيع. ناهيك بالموائد الحافلة بأطايب المأكولات والحلوى، فيما هي تتلوى برداً وجوعاً.

وحدة وظلام

ونظرت من حولها فرأت المطر قد كف هطوله، وراح الثلج ينهمر ويتكدس على الطرقات، والكلاب لجأت إلى أروقة المنازل، ولم يبق في الشارع غير بائعة الكبريت الصغيرة!

وخشيت أن تعود إلى البيت خالية الوفاض مثل المرة الأولى، وتساءلت في نفسها: «وهل بيتنا الحقير أقل تعرضا للبرد من هذا الشارع المهجور؟ وهل أعود فأثير على نقمة أبي مرة أخرى؟ وما نفع بيت لا يعرف دفء النار ولا حرارة العاطفة؟ لا شك في أن الشارع هذا أرحم من بيتنا!

وانثنت إلى جدار تظلله شرفة فسيحة، وجلست أرضا، وتكومت على نفسها وهي تشد إلى صدرها علب الكبريت.

وبقيت على تلك الحال ساعة حتى اشتدت موجة الصقيع، وشعرت الفتاة أنها قد تموت من شدة البرد. وحينها خطرت لها فكرة فقالت لنفسها: “وما يمنع أن أضحي ببعض أعواد الكبريت، أشعل منها عودا بعد آخر، فأشعر بلمحة من الدفء مرة بعد أخرى فلا يقضي على الصقيع؟”.

ومدت يديها، ففتحت علبة، وسحبت منها عودا واحدا من الثقاب، وكأنها تختلس من خزانة جواهر عقدا مرصعا من الماس. وأشعلت العود، فأرسل لهيبا مضيئا. وراحت تتأمل اللهيب وقد انتابها فجأة شعور لذيد ساحر. وتخيلت أنها جالسة أمام مدفأة كبيرة من الحجر، باطنها قرميد أحمر، وفي أرضها حطب مشتعل تتصاعد منه ألسنة نار راقصة، تلتهم البرد وتنفث الحرارة اللطيفة من حولها.

ولكن سرعان ما احترق العود كله، فاختفت المدفأة مع انطفاء لهيبه، وعاد البرد القارس يلسع بدن الفتاة الصغيرة.

وكم تأسفت لأن شعورها بالدفء كان قصير الأجل. كان حلما رائعا عمره أقل من عمر لهب النار المشتعل في رؤوس أعواد الثقاب.

وما مضت ثوان، حتى عادت تقول لنفسها: “سوف أضحي بعود آخر أملا في عودة الحلم اللذيذ”.

وأشعلت عودا ثانياً، فما إن اندلع اللهب الساحر حتى خيل إليها أنها جالسة إلى طاولة تحفل بألوان الطعام الشهي، وأن ديكا حبشيا، مطبوخا منفوخا، يتوسط المائدة، يسيل لرؤيته اللعاب.

خيالات بعيدة

ومدت يديها نحو ديك الحبش المشوي المقلي المدور وكأنه البدر في تمامه، المحمر وكأنه سبائك الذهب الخالص، ولكن، يا ويلاه، سرعان ما انطوت المائدة وتبخرت، وطار الديك، وانطفأ عود الثقاب. وعاد البرد والجوع يلسعان أحشاء الفتاة الصغيرة.

ومرت فترة من الألم لا تطاق، فقالت «إنغربد» في نفسها: “صحيح أني لم أر ولم أذق إلا خيالاً بخيال. لكن هذه الأحلام الباطلة جميلة تشرح الصدر، وتساعدني على احتمال البرد والجوع”. وما قالت هذا في نفسها، حتى أشعلت عودا ثالثا …

وتراءى لها، من خلال اللهب، شجرة عيد في زاوية من منزل فحم، واسع الأرجاء، وكانت تسطع بالشموع، تتدلى من غصونها مصابيح صغيرة من كل لون، ومن كل حجم، وحولها أطفال، بعضهم في مثل عمرها، ثيابهم نظيفة، وهم موردو الخدود، ينشدون معاً أغنية مرحة ترحيباً بالسنة الجديدة.

ولكن سرعان ما انطفأ عود الكبريت، وعاد الليل والبرد والجوع. فما كان من «ياسمينة» إلا أن أشعلت عودا رابعا.

وكم كانت دهشتها عظيمة حين شبه لها تشبيها أنها في حضن جدتها العجوز. نعم، فقد كان «لياسمينة» اليتيمة الأم جدة طعنت في السن، وهي جدتها لأمها، وقد حضنتها من بعد وفاة والدتها وقامت مقامها، ولكن سرعان ما فارقت الحياة، حين كانت بائعة الكبريت ما تزال في أول عهدها بالمشي واللعب.

عالم سعيد بعيد

وحين تصورت أن جدتها عادت تحضنها، انحنت عليها العجوز، وغمرتها بعينين واسعتين تسيلان حناناً، وقالت لها: “أطلبي ما تشتهين يا حفيدتي الجميلة، فقد انتهت أيام التشرد والعذاب…”

وهتفت الفتاة بأعلى صوتها قائلة: “أرجوك يا جدتي، خذيني معك قبل أن ينطفئ عود الكبريت…”

وعند صباح تلك الليلة، ليلة رأس السنة، رأى الناس في الشوارع، قرب جدار تغلوه شرفة عالية، فتاة صغيرة، شعرها أشقر، مسبل على كتفيها الهزيلتين، وقد تجمدت من شدة البرد، وقد تناثرت من حولها على الأرض علب كبريت ملونة، وبقايا أربعة عيدان محترقة، وعيناها الواسعتان منفتحتان على عالم سعيد بعيد …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى