كان محمد عاملاً في إحدى ورشات المدينة، وكان مخلصاً في عمله محباً له، يبذل فيه جهداً كبيراً. كان يتعب كثيراً عند أدائه ولا يرتاح إلا قليلاً على الرغم من أن جسمه النحيل لا يحتمل مشقة العمل الدؤوب. هذا الجهد المستمر جعله يصاب بمرض ألزمه الفراش بعد أن استعصى علاجه. أخذ المرض يضغط عليه ويذيب جسمه النحيل، حتى أصبح هذا الجسم معلقاً بين الموت والحياة.
كانت زوجته فاطمة ذات الأخلاق الكريمة والطيبة قلقة على زوجها، مما جعلها تبكيه وتتحسر على حاله. أيمكن لهذا الغصن الرطيب أن يذبل؟ وعلى الرغم من الألم الذي كان يعانيه محمد من مرضه المرهق، إلا أنه كان كثير التفكير في مصير زوجته وابنه.
اقتراب النهاية ووداع محمد
اشتد مرض محمد، وضعفت صحته تدريجياً، حتى أحس أن نهايته قد اقتربت وأن أجله قد حان. شعر أنه على وشك مغادرة هذه الحياة، ووداع أحب الناس إلى قلبه، زوجته وابنه. فقال ذات يوم لزوجته بصوت ضعيف ومتهدج: “يا فاطمة، سأفارقكم قريباً. سأغادر هذا البيت الذي عشت له وفيه. سامحيني إن لم أترك لكِ ولابننا ثروة تحميكما من متاعب الحياة ومشاقها. ومع ذلك، فأنا واثق أنك ستواجهين الأيام بصبرك المعروف، وذكائك الفطري، وتربيتك الطيبة لابننا. حاولي أن تبقي كما عهدتك.”
رحل محمد عن الحياة، تاركاً وراءه زوجة وابناً يواجهان مصيراً مجهولاً. بكت عليه زوجته، وحزن طفله لفقده، وتأثر أحبابه وأصدقاؤه لفراقه. فقد كان محمد رجلاً صادقاً، وفياً، مخلصاً في عمله، ويحترم كل من يتعامل معه.
قرار فاطمة بالعمل وتربية ابنها
بعد وفاة محمد، لم يترك شيئاً لزوجته وولده من مال أو ممتلكات، لكنه ترك لهم أخلاقاً سامية، وإيماناً بالله، وصبراً على قضائه. بدأت الزوجة منذ تلك اللحظة تفكر في كيفية مواجهة متاعب الحياة، والسبيل إلى ضمان عيش شريف وتربية حسنة لابنها. كانت تحاول إبعاد ابنها عن مرارة اليتم، لذلك بدأت تفكر في عمل يقيها صعوبة الحياة.
لكن المشكلة الكبرى التي واجهتها كانت ولدها الصغير، فمن سيرعاه إن خرجت للعمل؟ هل تتركه وتذهب بحثاً عن رزق وتعرضه للضياع؟ استمرت أياماً طويلة في التفكير والبحث عن حل، حتى اهتدت إلى فكرة أن تعمل في نسج الزرابي.
نجاح فاطمة في عملها وتفانيها في تربية ابنها
شعرت فاطمة بالراحة والاطمئنان لهذه الفكرة. قامت ببيع بعض حليها واشترت بثمنها الصوف، ثم غسلته وفتلت خيوطه وبدأت عملها في نسج الزرابي. أبدعت في نسجها، وتفوقت في زخرفتها إلى حد لم تكن تتصوره. كما أوصت ابنها بأن يكون عوناً لها؛ هي تعمل في النسج، وهو يتفرغ للدراسة لتصنع منه رجلاً للمستقبل.
كلفت ابنها بأن يذهب إلى السوق لبيع منتجاتها بعد أن تنتهي من نسج الزربية، وكانت تحثه دائماً على المثابرة والاجتهاد في الدراسة ليحقق النجاح في حياته.
عمر يبيع الزربية في السوق
فرح عمر بالفكرة، وحمل ذات يوم زربيته وذهب بها إلى السوق. بذكاء وبراعة، باع منتوجه وعاد إلى البيت سعيداً، يحمل النقود في جيبه ويشد عليها بيده كي لا تضيع. كان سعيداً بإعجاب الناس بنسيج الزربية وزخرفتها، وازدادت فرحته عندما رأى النتيجة الإيجابية لعمله ولعمل والدته.
فرحت فاطمة بنتيجة أعمالها، وشعرت بالرضا عن نفسها وعن ابنها، مما دفعها للعمل بجدية أكبر. ومنذ ذلك اليوم، أقبلت على النسج بكل حماسة، وكانت النتائج مبهرة.
عمر يعثر على الكنز
في يوم من الأيام، وبينما كان عمر يتجول في السوق كما كان يفعل عادة، وقعت عينه على كيس غامض. مد يده إليه وفتحه ليكتشف أنه يحتوي على نقود. عاد إلى البيت بسرعة، فرحاً بما عثر عليه، وأخبر والدته بكل حماس بما وجد.
نثر أمامها دنانير ذهبية لامعة وقال: “بهذا يزول فقرنا، وتتحسن حياتنا. بهذا نستبدل الفقر بالغنى والشقاء بالسعادة”. فوجئ بغضب والدته التي سألته بصرامة: “من أين أتيت بهذا؟ وكيف وصل إليك؟” أكد لها عمر، وهو يصرخ قسمًا، أنه وجده ملقى على الأرض ولم يأخذه من أحد.
حكمة فاطمة وأمرها بإعادة المال
نهرته والدته بغضب، وأمرته أن يعود إلى السوق ليبحث عن صاحب المال، موضحة له أنها لا تعيش إلا من كدها وعرق جبينها. وقالت له: “ألم تفكر في صاحب المال؟ إذا كنت سعيداً به الآن، فإن حزنه على فقدانه سيكون أضعاف فرحتك. لا شك أنه شقي كثيراً في جمعه.”
أمرته أن يعود إلى السوق، ويعلن بين الناس بصوت مرتفع أنه وجد كيساً يحتوي على المال، وأن يطلب منهم إحضار العلامة الخاصة بهذا المال المفقود للتأكد من هوية صاحبه.
عمر يعيد الأمانة
نفذ عمر ما أمرته به والدته. وبينما كان ينادي في السوق، اندفع رجل نحوه، وقد كاد الاختناق يعتريه من التعب، ليخبر عمر بأنه صاحب المال المفقود. طلب عمر من الرجل أن يصف الكيس للتأكد من صدق كلامه. عندما طابق الوصف الحقيقة، سلم عمر المال لصاحبه.
أراد الرجل مكافأة عمر بقطعة ذهبية، لكن عمر رفض قبولها خوفاً من غضب والدته. فقال الرجل بإعجاب: “لم أرَ مثلك من قبل. رغم الفقر الذي يبدو عليك، فإنك تمتلك نفساً أبية وأخلاقاً كريمة ترفض الإحسان.” ثم نصحه الرجل قائلاً: “اذهب إلى والدتك، واستشرها: أيهما تفضل، دعاء الخير أم قطعاً ذهبية؟”
اختيار فاطمة لدعاء الخير
عاد عمر إلى البيت وأخبر والدته بما حدث. غضبت والدته وصرخت في وجهه: “يبدو أن الذهب لا يزال يلعب بعقلك الصغير. عد إلى الرجل واطلب دعاء الخير، فهو أفضل لنا من عشرات الأكياس.”
عاد عمر إلى السوق وأخبر الرجل برغبة والدته. رفع الرجل يديه إلى السماء ودعا الله أن يوفقه ويسعده في الدنيا والآخرة، وأن يرزقه بزوجة صالحة، وأن يكتب له زيارة بيت الله الحرام.
نشأ عمر في ظل رعاية والدته، وتحسنت أخلاقه، ورسخ حب الخير في نفسه، وعاش حياة مليئة بالسعادة والقيم النبيلة.
عمر يسعى للعلم
مرت سنوات، وبدأ عمر يفكر في الرحيل بحثاً عن العلم ووسيلة عيش تسعده، بعدما أصبحت والدته عاجزة عن حمايته من متاعب الحياة. قرر التوجه إلى بلدة سمع عن علمائها وكثرة علمهم ولطف أهلها. وعندما وصل إلى المدينة، بدأ يلازم المسجد ليستمع إلى دروس شيخ أعجبته وأثرت في نفسه، فأغراه ذلك بمتابعة الدروس.
تعرف عمر على الشيخ، وبمرور الوقت علم الشيخ بحالة هذا الشاب وطموحه في إيجاد عمل يكفل له العيش الكريم. عرض عليه الشيخ أن يعمل في مزرعته ويقيم معه في منزله. مع الوقت، زاد إعجاب الشيخ بعمر، ورغب في أن يصاهره ويزوجه ابنته. لكن عندما أخبره عمر بانشغاله بوالدته التي تعيش وحيدة، طالبه الشيخ بأن يأتي بها لتعيش معهم.
تحسن حال عمر وزواجه
تحسنت حياة عمر بعد انتقال والدته للعيش معه، وازدادت سعادته عندما تم الزواج بحضور والدته التي طالما أولته الرعاية. عُرفت منزلته بين الناس بفضل قربه من الشيخ، وأصبح محط تقدير الجميع.
وذات صباح، رفع عمر يديه بعد الصلاة ليشكر الله على تحقيق أمنيتين، وألح في الدعاء لتحقيق أمنيته الثالثة. زوجته، التي كانت تسمع دعاءه، شعرت بالقلق والشكوك. أخبرت والدتها بما سمعته، معبرة عن خشيتها من أن يكون قد تزوج قبلها أو يرغب في الزواج مرة أخرى، وأن هذه هي أمنيته الثالثة.
قلق زوجة عمر وتفسيره للأمنيات الثلاث
أصيبت الأم بالقلق بسبب خوف ابنتها، فأخبرت زوجها بما يدور في ذهنها. لكن الأب أنكر إمكانية أن يكون عمر قد أخفى عنهم أمراً مثل هذا، ورفض تصديق أن الرجل الطيب الذي يعرفونه قد يفعل ذلك.
عندما عاد عمر إلى البيت، لاحظ أن العائلة غاضبة ووجوههم عابسة. سألهم عن السبب، فأخبره صهره بما يشغل بال ابنته. ضحك عمر من هذه الأوهام، وضحك أكثر لغيرة زوجته التي أضعفت عقلها. ثم شرح لهم قصة أمنياته الثلاث، قائلاً: “كنت صغيراً أبيع في السوق، ووجدت كيس دنانير ذهبية، أرجعته إلى صاحبه فدعا لي بالخير. تحسنت أحوالي، وتزوجت هذه المرأة الصالحة. وبقيت لي الأمنية الثالثة وهي تأدية فريضة الحج.”
اكتشاف حقيقة عمر
اندهش صهره وقال: “أنت إذن الطفل الصغير الذي أعاد إلي الذهب والدنانير!”