كان التلفاز معطلا، مر أكثر من شهرين على تعطله ولم يصلح بعد. مرت الامتحانات وانتهت حجة الأب في بقاء التلفاز كما هو. أمس فقط نقلوه للمصلح، والمصلح يقول تكلفته خمسة وستون جنيها ليعود كما كان، ونحن الآن في آخر الشهر. لابد أن ينتظر الأولاد حتى يقبض الأب مرتبه، حينها يسترد الأب التلفاز، ويستطيعون مشاهدة برامج التلفاز كما يحبون.
في إحدى الليالي قالت الجدة: “لم تبدون حزناء هكذا؟!.. كنا أيام زمان بلا تلفاز ولا مذياع ولا حتى كهرباء، وكنا سعداء راضين!!”
حكاية من زمن الأجداد في ليلة بلا تلفاز
لم يقتنع الأولاد بقول الجدة. قال الأب: “ما رأيكم لو حكيت لكم حكاية مسلية، كما كانت تفعل جدتي أيام زمان؟”
وافق الجميع، وأعدت أكواب الشاي، وأكواب عصير الليمون حسب رغبة كل فرد ثم اجتمعت الأسرة كلها في حجرة الأولاد. جلست الجدة والأب على الأريكة، أما باقي أفراد الأسرة فكانوا يجلسون على الأرض يستمعون.
قال الأب: “كان يا مكان يا سادة يا كرام من قديم الزمان رجل عظيم اسمه شيبة. رأى هذا الرجل في المنام حلما يأمره أن يحفر بئرا. ولم يتوقف الحلم عن المجيء للرجل كل يوم. أخيرا، استجاب شيبة، وأخذ ابنه الوحيد واسمه الحارث، وذهب هو وابنه ليحفرا بئرا حيث دلهما الهاتف في الحلم.”
“أخذ الأب يضرب بمعوله في الأرض، وأخذ الابن ينقل ما يخرج من تراب ويساعده أبوه. لم يمض وقت طويل حتى ظهرت أشياء تلمع، إنها ذهب، ذهب خالص على شكل تمثالين لغزالين. وظهرت دروع وأسياف. أخذ الأب هذه الأشياء كلها، نحاها جانبا، واستمر يحفر هو وابنه حتى خرج الماء. كان الماء عذبا جميلا. فرح به شيبة وفرح به ولده الحارث.”
نذر شيبة الغريب وحقيقة اسم عبد المطلب
وبسرعة انتقل الخبر إلى قوم شيبة، فجاءوا إليه مسرعين وطالبوا بتقاسم الكنز معه. لم يقبل شيبة، غضب وقال: “لا، هذا من حقي وحدي، لأن الهاتف أتاني أنا في المنام، ودلني على مكان الكنز، وأمرني بأن أحفر هذه البئر.”
ارتفعت الأصوات من كلا الجانبين. رأى شيبة نفسه وحيدا، ليس معه إلا ابنه، لا يستطيع أن يقاوم هؤلاء الناس إن هم هاجموه واغتصبوا منه ما وجده. فكر في نفسه وقال: “آه لو كان لي أولاد كثيرون لما فكر هؤلاء في اقتسام الكنز معي.”
صاح شيبة: “نذر على الله إن وهب لي عشرة أولاد لأذبحن واحدا منهم.”
ابتسم أحمد أكبر الأولاد وقال: “يا أبي، لم يكن اسم هذا الرجل شيبة؛ إنما كان اسمه عبد المطلب.”
ضحك أحمد ثم سكت. ما لبث الصمت أن ساد المكان كله. كان الجميع غاضبين من أحمد، لماذا أعادهم بكلامه من هناك حيث شيبة وابنه الحارث إلى هنا، إلى حيث الغرفة الضيقة التي يغيب عنها التلفاز. ولكن، هل يعرف أحمد أكثر من أبيه؟ وهل كان اسم ذلك الرجل العظيم شيبة أم عبد المطلب؟!!
قال الأب: “كلامك يا أحمد صحيح وخطأ في وقت واحد. فشيبة هو الاسم الأصلي لعبد المطلب بن هشام. كان هشام والد شيبة قد تزوج في يثرب امرأة من بني النجار. مات هشام وولدت زوجته غلاما جميلا أسمته شيبة. في يثرب، تربى شيبة وكبر حتى صار صبيا جميلا ذكيا. عندئذ؛ قرر عمه المطلب أن يأخذه من أمه ليعيش معه في مكة. لم يكن أحد من أهل مكة قد رأى شيبة من قبل؛ لذلك عندما أبصروا المطلب بن هشام وهو يردف خلفه صبيا نجيبا ذكيا قالوا: هذا عبد اشتراه المطلب وعاد به. وهكذا سمي شيبة بعبد المطلب بن هشام.”
القرعة تقع على عبد الله وقريش ترفض التضحية
سكت الأب. وقال أحمد: “لم أكن أعرف هذا يا أبي، ولكني أعرف أن هذه البئر هي بئر زمزم، وأن عبد المطلب، جد النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن أخذ كل ما وجده في البئر تبرع به للكعبة، فجعل الأسياف والدروع بابا للكعبة، وعلق الغزالين عليه. وجعل زمزم بئرا للناس؛ يشرب منها حجاج بيت الله الحرام.”
واستمر الأب يحكي ويقول: “أخذ عبد المطلب يتزوج وينجب حتى صار عنده عشرة أولاد ذكورا، غير الإناث.”
رغما عنه صاح إبراهيم، أصغر الأولاد سنا: “هل ذبح عبد المطلب أحد أولاده؟”
سكت الأب قليلا ثم قال: “كان لابد لعبد المطلب أن يذبح واحدا من أولاده ليوفي بنذره. انتظر حتى كبر أصغرهم وهو ابنه عبد الله ثم أجرى القرعة بين جميع أولاده الذكور، فخرجت القرعة على عبد الله ليذبح.”
“لم يقبل أهل مكة أن يذبح سيدهم عبد المطلب ابنه عبد الله. عبد الله شاب ذو أخلاق حميدة وعقل ذكي راجح، كيف يتركونه لأبيه ليذبحه؟ إنهم إن سكتوا أصبحت سنة، واقتدى بها كثير من العرب، وانتشر ذبح الأبناء في جزيرة العرب كلها. لا.. لا.. لن يسمحوا لعبد المطلب بذبح عبد الله. أشار بعض أهل مكة على عبد المطلب أن يذهب إلى عرافة شهيرة لتحل هذه المشكلة.”
فداء عبد الله وميلاد نبي الرحمة
قالت العرافة: “أجر القرعة على عبد الله وعلى دية الرجل، وهي عشرة من الإبل؛ فإن خرجت على عبد الله، فزد يا عبد المطلب عشرة في كل مرة حتى تخرج على الإبل. حينئذ، فاذبح الإبل، ودع ابنك يعيش.”
اقتراح وجيه، رضيه عبد المطلب ونفذه حتى خرجت القرعة على مائة من الإبل. بفرح وسرور كبيرين؛ ذبح عبد المطلب مائة من الإبل ووزعها في مكة يأكل منها من يشاء. وزوج عبد المطلب ابنه عبد الله بامرأة شريفة.
صاح إبراهيم: “زوجته السيدة آمنة بنت وهب.”
قال الأب: “نعم، تزوج عبد الله من آمنة بنت وهب ولم يلبث معها إلا شهورا قليلة تركها وهي حبلى، وذهب في تجارة قريش، وعند عودته، مات في الطريق.”
“مات عبد الله سيد شباب قريش كلها، مات هذا الشاب الذكي النبيل الجميل النجيب المطيع لأبيه.”
“مات بعد أن فدي بدية عشرة رجال، وبعد أن عرف قصته كل العرب. ولدت آمنة بعد شهور قليلة ولدا جميلا أسماه جده محمدا.”
صاح أحمد: “نعم سيدنا محمد هو ابن الذبيحين، لأن سيدنا إسماعيل ابن إبراهيم هو جد سيدنا محمد وهو الذبيح الأول، وعبد الله هو والد محمد وهو الذبيح الثاني.”
قالت الجدة: “والآن صلوا على محمد وعلى آل محمد.”
فقالوا: “اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد.”
وقالت الجدة: “ألم أقل لكم أنه من الممكن أن نعيش سعداء بدون تلفاز؟!”
ضحك الأولاد، ثم قاموا ليناموا.





