وزارة بعنقود من العنب، ما أرخص تلك الوزارة إذن!.. ولكنها لم تكن كذلك، بل كانت غالية جدًا، وعنقود العنب لم يكن إلا علامة على الطريق، علامة على الكرم والصدق والصلاح والتقوى، وكان قبله كثير من الدرس والسهر والتعب، وكان بعده كثير من التعب والجد والإخلاص أيضًا.
الوزير هو عون الدين أبو المظفر يحيى بن محمد ابن هبيرة الشيباني، ولد في شهر ربيع الآخر سنة (٤٩٩هـ) في قرية (الدور) قرب بغداد، ووصل إلى رتبة الوزارة في عهد الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله، ثم ابنه المستنجد بالله. ولكنه قبل أن يصل إلى الوزارة عاش في الفقر والبؤس والذل، فصبر صبر الكرام. وبعد أن وصل إلى الوزارة لم ينتقم ممن أساء إليه، وهذا دليل الحلم والكرم، لأنه عفو عند المقدرة.
وقد حكى هو نفسه عن بعض من أهانه وأساء إليه، ثم عفا عنه بعد أن أصبح وزيرًا فقال: أحضر لي الشرطة يومًا رجلًا متهمًا بالقتل، فعرفته؛ لأنه من أهل قريتي (الدور)، فافتديته من أهل القتيل بستمئة دينار، ثم أعطيته خمسين دينارًا وصرفته، وقلتُ للجالسين حولي: هل تعلمون أن عيني اليمنى لا أبصر بها؟
قالوا: لا نعلم.
فقلت: إنني لا أبصر بها، وسببها هذا الرجل الذي افتديته وصرفته الآن. كنت جالسًا في بعض الطريق في قريتي (الدور) وبيدي كتاب فقه أقرأ فيه، فأتى هذا الرجل ومعه سلة من الفاكهة وقال لي: قم احمل هذه السلة.
فقلت له: ما أنا بحمال.
فضربني بيده على عيني اليمنى فذهب بصرها منذ ذلك الوقت، وأردت الآن أن أكافئ إساءته بالعفو والإحسان بعد قدرتي عليه.
ودخل عليه مرة أحد الجنود الأتراك، فقال لحاجبه: أعط هذا الجندي عشرين دينارًا، ولا تدعه يدخل علي مرة أخرى.
ثم قال للجالسين حوله: عندما كنت في قريتنا (الدور) وقع فيها قتيل، فأتى الجنود الأتراك وأخذوا جميع أهل القرية وأنا معهم، وكان نصيبي مع هذا الجندي الذي رأيتموه الآن، وكان هو راكبًا فرسًا فساقني أنا وبضعة رجال من قريتنا أمامه بعد أن ربط أيدينا وراء ظهورنا، وفي الطريق صار الرجال رفاقي يعطونه ما معهم من الدراهم فيفكهم ويطلق سراحهم، وبقيت وحدي؛ لأنه لم يكن معي شيء من المال أفتدي به نفسي، فصار يضربني ويسوقني أمامه بقسوة وعنف، وأنا ساكت، حتى أدركتنا صلاة العصر، فطلبت منه يسمح لي بالصلاة فلم يسمح. وهذا أكثر ما أغضبني منه.
أما وصوله إلى الوزارة فهذه قصته:
عنقود العنب الذي غير مصيره
نشأ يحيى بن محمد بن هبيرة في قرية (الدور) في عائلة فقيرة تشتغل بفلاحة الأرض وزراعتها، ولكنه لم يكن مهتمًا بالفلاحة ولا بالزراعة، وإنما كل اهتمامه كان منصبًا على قراءة الكتب وملاحقة الشيوخ والعلماء في كل مكان. لذلك عندما أصبح شابًا ذهب إلى بغداد فقرأ القرآن الكريم وسمع الحديث النبوي، ودرس الفقه والأدب والبلاغة على شيوخ بغداد وعلمائها وأدبائها في ذلك العصر، حتى برع فيها جميعها، وبخاصة في الفقه على المذهب الحنبلي، كما أصبح أديبًا وشاعرًا كبيرًا.
وعند ذلك أخذ يفتش عن وظيفة يعيش منها في بغداد. ولأجل ذلك أخذ يراجع ديوان الوظائف في بغداد التابع للخليفة العباسي المقتفي لأمر الله، وكلما راجعهم كانوا يقولون له: لا توجد وظيفة الآن. حتى نفدت دراهمه ويئس من وجود وظيفة له في بغداد، فعزم على العودة إلى قريته (الدور).
وخرج من بغداد بعد أن أنفق آخر درهم كان معه، واتجه في الطريق إلى قرية (الدور) سيرًا على الأقدام، لأنه لم يكن معه أجرة دابة يركبها!.
وبعد أن سار في الطريق قليلًا أدركته صلاة العصر، فنظر حوله فرأى مسجدًا قديمًا على جانب الطريق، فمال نحوه ليصلي العصر، وسمع وهو يصلي أنينًا يأتي من جانب المسجد، لذلك بعد أن أنهى صلاته اتجه نحو ذلك الصوت، فوجد شخصًا مريضًا نائمًا على الأرض في طرف المسجد، فلمسه بيده فوجده مصابًا بالحمى، فسأله عما يشعر به، فقال له: إن جسمه كله يؤلمه، وإنه غريب منقطع ليس له أحد، لذلك لجأ إلى هذا المسجد المنقطع والبعيد عن العمران.
فسأله ابن هبيرة عما يشتهيه، فقال له: إنني أشتهي عنقودًا من العنب.
قال يحيى بن هبيرة لنفسه: عنقود من العنب؟! من أين لي عنقود من العنب الآن وأنا بعيد عن العمران، وليس معي درهم واحد؟!. ولكنه أضاف: سأسعى جهدي للحصول على عنقود من العنب لهذا المريض الذي يودع آخر أيام الدنيا، ويستقبل أول أيام الآخرة، لعله يدعو لي دعوة مستجابة يفرج بها الله تعالى عني ما أنا فيه. وهكذا صنع المعروف لوجه الله تعالى مع هذا المريض الفقير المجهول، وهو لا ينتظر منه أي جزاء أو مقابل، فكان معروفه هذا نقطة تحول غيرت مجرى حياته، وأوصلته إلى الوزارة بعنقود من العنب.
قصة التاجر الخراساني
ذهب ابن هبيرة يجري لكي يصل العمران قبل حلول الظلام، ووصل إلى دكان لبيع الفاكهة، فوجد فيها عناقيد شهية من العنب، فتناول عنقودًا كبيرًا منها، وقال لصاحب الدكان: بكم هذا العنقود؟
قال: بنصف درهم.
فقال له ابن هبيرة: ولكن ليس معي ثمنه الآن، وإنني أرهن عندك عباءتي هذه إلى أن آتيك بثمنه.
فرضي منه البائع ذلك. فخلع ابن هبيرة عباءته وأعطاها للبائع، وأخذ عنقود العنب وذهب يركض إلى المسجد الذي فيه المريض، فوصل إليه مع غياب الشمس وهبوط الظلام، فتوضأ وصلَّى المغرب، وغسل عنقود العنب بالماء وقدمه للرجل المريض.
وفرح المريض به فرحًا شديدًا، وأكله كله. وقال: الحمد لله الذي قضى شهوتي قبل أن أموت فقد كنت أشتهي العنب منذ مدة طويلة، ولا أستطيع شراءه؛ لأنه ليس معي ثمنه. ثم التفت إلى ابن هبيرة وقال له: أنت رحمة أرسلها الله إلي. اجلس يا بني لأحكي لك قصتي قبل أن أموت، فإنني أشعر أني سأموت في هذه الليلة.
أنا رجل من خراسان اسمي أحمد؛ كنت تاجرًا من كبار تجار مدينة (مرو) في خراسان، وكان لي أخ تاجر مثلي، أصغر مني اسمه محمود، ومنذ سنة تقريبًا اتفقت أنا وأخي على الذهاب في القافلة التي تذهب عادة من (مرو) إلى بغداد لشراء بضاعة من بغداد، نبيعها في خراسان، فاشتريت أنا بالمال الذي معي بضاعة من (مرو) لكي أبيعها في بغداد وأشتري بدلًا منها بضاعة من بغداد آخذها إلى (مرو). أما أخي محمود فلم يشتر بضاعة، وإنما كان معه ألف دينار وضعها في حزام وأعطاني إياه لأخبئه معي؛ لأنني أكبر منه وأوعى.
وقبل وصولنا إلى بغداد خرج علينا قطاع الطرق، فهاجموا القافلة، ونهبوا البضاعة كلها، وقتلوا منا ناسًا وجرحوا آخرين. وكنت أنا بين الجرحى، ولكنهم حسبوني من الأموات، فتركوني. وبعد ذهابهم تحاملت على نفسي وقمت، وفتشت عن أخي بين القتلى وبين الجرحى فلم أجده. فقلت: لعلي أجده في بغداد، وكانت قد أصبحت قريبة منا، فتوجهت إلى بغداد، وصرت أداوي جرحي في القرى التي أمر بها حتى وصلت إلى بغداد وشفي جرحي. أما بضاعتي أنا وأموالي فقد ذهبت كلها أخذها اللصوص، ولم يبق معي إلا حزام أخي الذي فيه ألف دينار وبضعة دنانير لي كانت في جيوبي، وصرت أصرف على نفسي من دنانيري حتى نفدت، ولم تسمح نفسي أن آخذ شيئًا من دنانير أخي، فصرت أعمل وأصرف على نفسي إلى أن أصابني المرض وأشرفت على الموت كما ترى.
ومنذ سنة وأنا أبحث عن أخي في بغداد، ولكنني لم أجد له أثرًا، وحزامه لا يزال معي، وأظن أنني سأموت في هذه الليلة، فإذا مت أرجو أن تغسلني وتدفنني، وأن تأخذ الحزام الذي فيه ألف دينار، وأن تبحث عن أخي محمود؛ فإن وجدته فأعطه الحزام، وإن لم تجده فالحزام لك، افعل به ما تشاء.
محمود يروي قصته
يقول ابن هبيرة: وفي الليل، وأنا نائم إلى جانب الرجل المريض سمعته يتشهد ويشهق، فنظرت إليه، فإذا هو قد مات. فقمت وغسلته وصليت عليه ودفنته، وأخذت الحزام، وعدلت عن الذهاب إلى قريتي (الدور) بعد أن صار معي ألف دينار، وتوجهت إلى بغداد في الصباح، فذهبت إلى بائع العنب فأعطيته دينارًا؛ أخذ منه نصف درهم ثمن العنب ورد إلي الباقي، وأعطاني عباءتي.
وذهبت إلى شاطئ نهر دجلة لأنتقل إلى القسم الآخر من بغداد، فوجدت قاربًا فيه ملاح ينقل الناس بالأجرة فركبت معه. ودجلة نهر عريض؛ يستغرق قطعه نحو نصف ساعة أو أكثر، فصرت أحادث الملاح، فوجدت لهجته غير بغدادية، فسألته: من أي البلاد أنت؟
قال: أنا من خراسان، من مدينة (مرو).
قلت: ما اسمك؟
قال: محمود.
قلت: وما الذي جاء بك إلى هنا؟
قال: هذه قصة طويلة لا شأن لك بها.
فأقسمت عليه أن يحكي لي قصته، فقال: أنا كنت تاجرًا في (مرو) وكان لي أخ أكبر مني اسمه أحمد تاجر أيضًا، واتفقنا أن نذهب إلى بغداد لنشتري بضاعة منها نبيعها في (مرو)، وكان معي ألف دينار وضعتها في حزام وخبأتها مع أخي؛ لأنه أكبر مني، وذهبنا مع القافلة، وقبل وصولنا إلى بغداد خرج علينا اللصوص فنهبوا القافلة، وقتلوا وجرحوا خلقًا منها، وهربت أنا منهم قبل أن يصلوا إلي. وفي اليوم الثاني عدت إلى مكان القافلة ففتشت بين القتلى والجرحى فلم أجد أخي. والظاهر أنه طمع في ألف الدينار التي لي معه، فأخذها وهرب بها وتركني أقاسي الفقر والحرمان فجئت إلى بغداد وجلست على شاطئ دجلة حزينًا، فرآني صاحب هذا القارب فسألني عن حالي فحكيت له قصتي. فقال: تعال اشتغل معي على هذا القارب؛ فإنني قد أصبحت شيخًا عجوزًا ضعيفًا، لا قدرة لي على العمل، وليس لي ولد.
ابن هبيرة يكتشف سر الحزام
فاشتغلت معه، ثم زوجني بنته وأسكنني في بيته، ثم توفي منذ بضعة أشهر رحمه الله تعالى.
يقول ابن هبيرة: فسألته عن صفات حزامه؛ فكانت مطابقة لصفات الحزام الذي معي فتيقنت أنه هو صاحب الحزام، فأخرجته له، فلما رآه شهق وكاد أن يغمى عليه، فرششت عليه الماء فانتبه، وقال: من أين لك هذا الحزام؟
فحكيت له قصة أخيه وقلت له: إنه لم يهرب بالحزام، بل كان يبحث عنك في بغداد ليرده إليك، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وفرح فرحًا شديدًا بالحزام، فقلت له: عد الدنانير.
فوجدها (٩٩٩) دينارًا، فقلت له: الدينار الناقص صرفته لأدفع منه ثمن عنقود من العنب لأخيك.
فقال: سامحك الله.
ثم أعطاني عشرة دنانير أخرى له، وأعطاني عشرة دنانير ذهبًا، وتركته وذهبت.
وعندما وجدت نفسي في بغداد قلت: لأذهب إلى ديوان الوظائف وأسألهم عن الوظيفة. فذهبت، وما أن رأوني حتى قالوا: أين أنت؟! إننا نبحث عنك، فقد شغرت عندنا وظيفة لك. وهكذا كان عنقود العنب هو السبب في رجوعي إلى بغداد، وهو السبب في حصولي على الوظيفة.
وتنقلت في الوظائف حتى أصبحت مشرفًا على مخازن الخليفة المقتفي لأمر الله ثم أصبحت كاتبًا في ديوان الخليفة. ولما رأى الخليفة كفايتي وأمانتي ونصحي قلدني الوزارة في سنة (٥٤٤هـ). وبعد أن توفي الخليفة المقتفي لأمر الله صار ابن هبيرة وزيرًا لابنه المستنجد بالله وبقي في الوزارة إلى أن توفي في سنة (٥٦٠هـ)، رحمه الله تعالى.
العبرة من القصة
الأمانة والصدق والتقوى والصلاح أساس النجاح في الدنيا وفي الآخرة.