لم تكن المرة الأولى التي أقف أمامها هكذا لأتأمل هذه الأشجار الخضراء وهي تهتز وتتراقص تحت وطأة الرياح والأمطار المتساقطة.
نظرت عيني إلى حبات البرتقال في أعلى الأشجار، فوجدتها تتلألأ كحبات الجواهر النفيسة، كانت تبتسم في تألق وكأنها تدعوني لقطافها. ووجدتني أحلم بقطف إحداها وأقوم بتقشيرها والتهامها. إن برتقالة بهذه الروعة وهذا البهاء حتما سيكون لها طعم ساحر.
ترددت بعض الشيء وقلت في نفسي: أليست هذه برتقالة؟
لكنني هززت رأسي في عدم اكتراث وقلت: “أشجار بهذه الكثافة، تحمل كل هذا الكم من البرتقال، ماذا يضير لو أكلت منها بعض الحبات؟” وإن علي أن أتحرك بسرعة، وأقفز من فوق الجدول الذي يمر منه الماء.
إغراء البرتقال وطعم الخطيئة المر
أمسكت بقطع من الحجارة الصغيرة ورحت أرمي بها البرتقال، وإذا ببعض العصافير تمرق فزعة من بين أفرع الشجرة وتتجه نحو شجرة أخرى وهي تطلق أصواتا غاضبة.
حملت ما أستطيع حمله من حبات البرتقال، وقد اخترت هذه الحبات بعناية شديدة، فهي كبيرة الحجم نسبيا، مشرقة كالشمس تسيل اللعاب. وهناك بجوار النهر الجاري، كانت الأمطار قد توقفت عن السقوط، وظهر قرص من الشمس وهو يغوص خلف الحقول والنخيل وقد صار في لون الدم. كانت الابتسامة ترتسم على وجهي وأنا أمسك بالبرتقالة وأقوم بتقشيرها. ولما حاولت أكلها لم أستطع لشدة ما بها من مرارة.
رميت بها في النهر وقد تغيرت ملامح وجهي واختفت الابتسامة بعض الشيء. أمسكت بالبرتقالة الثانية، ووضعتها على فمي، بيد أنها لم تكن بأحسن من الأولى. وهكذا وجدت الكثير من البرتقال يحمل مرارة شديدة فرميت به في النهر وأنا أشعر بالامتعاض والضيق، وقد اختفت الابتسامة تماما من وجهي.
قلت لنفسي: “ما هذا؟ ما الذي حدث؟”
فإذا بصوت عميق أسمعه ولا أرى صاحبه يقول: “لأنه ليس ملكا لك.”
كابوس الليل ونصيحة الأب الحكيمة
شعرت بالخوف والذعر، فركضت أسابق الريح حتى وصلت إلى البيت.
في الليل، وأنا نائم رأيتني أركض مسرعا والبرتقال يركض خلفي ويصرخ: “لص مجرم أمسكوه!”
كان البرتقال يشبه إلى حد كبير جنود الشرطة وهم يتقافزون بسرعة محاولين القبض علي، لكنني استطعت أن أفلت من قبضتهم لأجد نفسي في مواجهة مجموعة من الكلاب المتوحشة. يا إلهي ماذا يمكن أن أفعل؟
وراحت الكلاب تعوي وهي تقترب مني وقد تسمرت مكاني مستسلما لها، وما كادت تلمسني حتى صرخت: “النجدة.. أنقذوني.. آآآه.”
واستيقظت فجأة لأجد نفسي ما أزال على سريري ووالدي يجلس بجواري، وأمي تربت على كتفي وتحاول تهدئتي. قال أبي: “كل إنسان يقع في أخطاء، لكن العاقل فقط هو الذي يتعلم ويستفيد من هذه الأخطاء. وأنا شخصيا وقعت في أخطاء عندما كنت صغيرا مثلك.” ثم صمت قليلا وهو يربت على كتفي ويقول: “اذهب إلى صاحب البستان وقدم إليه قيمة البرتقال الذي أخذته، واطلب منه الصفح والسماح.”
“لكني يا أبي لا أستطيع، سيتهمني بالسرقة، وربما يقدمني إلى الشرطة.”
“عليك أن تتحمل نتائج أفعالك وتكون شجاعا.”
“أمرك يا والدي.”
لقاء صاحب البستان ومكافأة الأمانة غير المتوقعة
ودخلت غرفتي، وأخرجت صندوق النقود الذي أدخر فيه مصروفي اليومي وقمت بفتحه ثم أخرجت عددا من النقود وضعتها في جيبي وأنا أهتف من أعماقي: “يا رب سامحني، ساعدني على رد النقود إلى صاحبها.”
في بيت صاحب البستان كنت أجلس أحتسي الشاي والهواء النظيف المحمل برائحة البرتقال يهفو إلينا من خلال النوافذ المفتوحة التي تطل على الحديقة، ويداعب وجهي وشعري. كنت قد رويت له كل ما حدث، وحاولت أن أقدم له قيمة البرتقال الذي استوليت عليه دون وجه حق.
لكنه ابتسم في نعومة محببة وقال لي: “لا، لن أسامحك أبدا!”
اعترتني الدهشة وشعرت بالدماء تتصاعد إلى جميع أوصالي. قلت: “إنني يا سيدي أقدم إليك شديد أسفي وخجلي، وهذه النقود هي قيمة ال…”
هز رأسه مبتسما وقال: “أسامحك في حالة واحدة فقط.”
قلت على الفور: “أخبرني يا سيدي أرجوك.”
فرقع بيده فإذا بخادم صغير يدخل حاملا قفصا كبيرا به كمية هائلة من اليوسفي والبرتقال، ثم وضعه أمامي.
قال الرجل صاحب البستان: “عليك أن تقبل مني هذه الهدية حتى أسامحك وأعفو عنك!”
“سيدي، كيف، إنك؟”
“لا عليك يا ولدي، فإن من يملك هذا الضمير الحي، وهذا الإحساس المرهف يجب أن يتم تكريمه. أنت إنسان أمين، نادر المثال. ربما حاول الشيطان خداعك، لكنك بحسن أخلاقك، وطيب معدنك جئت إلى هنا، رغم أنني لم أرك حين فعلت ذلك.”
صداقة تنبت في بستان المعرفة
شكرته كثيرا، كثيرا جدا، وقمت لأنصرف فإذا به يصحبني إلى البستان ويحكي لي قصة حياته الطويلة المفعمة بالعمل والكفاح حتى رزقه الله بهذا البستان. قال لي: “ليس لي إلا ابنة صغيرة، في مثل عمرك تقريبا، وهي متفوقة في دراستها وتعشق البستان، تحلم أن تصير مهندسة في الزراعة، فتساعد في تعمير الصحراء وتنشر اللون الأخضر في كل مكان.”
قلت له: “يا لها من أحلام جميلة راودتني كثيرا.”
قال في اهتمام: “إذا كنت تتمنى أن تصير متخصصا في مجال الزراعة وغرس الأشجار عليك أن تقرأ الطبيعة جيدا وتحاول دراستها بجد.” ثم صمت قليلا وقال: “بستاني كله طوع أمرك، اعتبره حقل تجارب.”
في الأيام التالية ذهبت إليه ورأيت ابنته، كانت رائعة الحسن، تهتم بالبستان فتحنو على أشجاره وتداعب طيوره وتبتسم للنسيم ولجدول الماء.
قالت: “أجمل شيء في الحياة هو الهدف، حبذا لو كان هدفا نبيلا، ساميا، يعود عليك وعلى الجميع بالخير والسعادة.”
قلت: “إنني كل يوم أتعلم منك شيئا جديدا.”
قالت: “المعرفة هي البوابة السحرية التي تدخلنا إلى عالم أكثر رحابة وجمالا. حاول أن تقرأ في الكتب، انظر إلى الطبيعة، تأمل الوجود، ستعرف عظمة الخالق وقدرته، ستحافظ على نعم الله وتحاول أن تدافع عنها.”
ثمار الأمانة: من طفل نادم إلى عالم ناجح
قلت في نفسي: “يا لها من فتاة رائعة، صغيرة لكنها تحمل عقلا ناضجا.”
مرت الشهور والأعوام وتوطدت علاقتي بصاحب البستان حتى صرت بمثابة ابن له، أساعده في خدمة البستان وأعمال الأرض، أذاكر بين أشجاره أتأمل الكون الفسيح من خلاله.
وها أنا الآن كبرت وصرت عالما متخصصا في مجالات الزراعة. أما زوجتي العزيزة ابنة صاحب البستان فقد أصبحت من العالمات البارزات في هذا المجال. وقد قمنا سويا بعمل مشروعات كبيرة داخل أعماق الصحراء، والحمد لله رب العالمين.





