نظر الجد إلى الكمبيوتر وهز رأسه متعجبا، وقال: زمان كانت أساطير الجن والعفاريت تملأ حياتنا، وفي بلدتنا كنت أسمع أسطورة عن جنية تسكن في ترعة السواحلية. وهذه الجنية كانت تتفنن في التخفي والحيل، فمرات تخرج على شكل صينية فضة تطفو على سطح الماء، وعندما يحاول أي شخص التقاط الصينية تأخذه الجنية إلى أعماق الترعة.
ومرة تظهر على هيئة فتاة ساحرة الجمال لها شعر طويل، وإذا اقترب الضحية منها التف الشعر حوله وأخذته إلى الأعماق.
وذات ليلة قررت أن أرى هذه الجنية، فاستيقظت قبل أذان الفجر وغادرت الفراش حذرا، وفتحت الباب بهدوء، وجريت إلى ترعة السواحلية.
أسطورة جنية الترعة
جلست على الشط مبهور الأنفاس، ومياه الترعة توشوش بأغاني سحرية، كأنها تعاويذ تتمتم بها الجنية. ومن بعيد تظهر شجرة توت العمدة مثل جني ضخم، وأصوات مبهمة تملأ الكون وأنا جالس مشدود الأعصاب، متيقظا لأي حركة غدر تأتي من الجنية الماكرة، وعيناي ترقب المياه بدقة نافذة لأرى بداية ظهورها.
وحدث ما توقعته، في لحظة خاطفة التقطت أذناي أصوات حركة في المياه، الحركة منتظمة وحذرة، ولمحت عيناي شبحا يتقدم بهدوء وعناد، وتجسد الشبح، ووضحت الحركة، ووصلت أنا إلى أعلى درجات التيقظ، واقترب الشبح، فانفجرت شبكة أعصابي المتوترة في صرخة قوية:
“عااااااه..”
اللقاء المرعب في الظلام
فسمعت صرخة أقوى من صرختي “عاااااه”، أطلقت ساقاي للريح، لكن الجنية العنيدة لم تتركني، فهي تجري خلفي، وأنا أصرخ وأجري إلى أن وصلت المنزل، وطرقت الباب وأنا أصرخ، سقط أبي من على السرير وهو يصيح خائفا:
“من؟”
وفوجئ والداي برؤيتي وأنا أصرخ، وجسدي يهتز من أثر الرعب، وسألتني أمي: “ماذا بك يا حبيبي؟!”
إجابتي الوحيدة هي البكاء والخوف، وسألني أبي: “أين كنت في هذا الوقت وكيف خرجت من البيت؟!”
لا إجابة مني سوى البكاء، فلو عرف أبي الحقيقة لكان جزائي ضربا مبرحا بالتأكيد. أما سؤال أمي الوحيد فهو: “ماذا بك يا حبيبي؟” وعندما يأس الوالدان، قالت أمي رحمها الله: “هذا الولد ممسوس”، أي مسكون بالجن.
وقال أبي مغتاظا (لأنه لم ينس أنه وقع من على السرير): “أنا أكاد أجن من تصرفاته.”
اكتشاف حقيقة الجنية
واقترحت أمي أن يأخذني أبي إلى الشيخ محمد البقال ليقرأ على رأسي آيات القرآن الخاصة بطرد الجن.
وفي الصباح الباكر ذهبت مع أبي إلى دكان الشيخ محمد. وكانت هناك امرأة هي زوجة حسين الصياد، تحكي للشيخ محمد حكاية زوجها وهي خائفة وحزينة، والتقطت أذني كلماتها: “وبينما كان زوجي يجمع شباكه التي كانت منصوبة في الترعة خرجت إليه الجنية أم شوشة على هيئة طفل صغير.”
تصاعدت أنفاسي، وأنا أستمع إلى زوجة الصياد وهي تكمل: “طفل أسمر له عينان واسعتان، ويده قوية جدا، أمسكت بزوجي وكادت تأخذه للأعماق لولا أنه صرخ وجرى، ولكنها لم ترحمه، فأسرعت خلفه.”
نهاية الأسطورة
تمتم الشيخ محمد: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.”
لكني أنا أدركت الحقيقة، فلم تكن الجنية بالنسبة للصياد إلا أنا، كما أن الخوف لعب دورا كبيرا في تصوير الصياد لي بأنه الجنية.
ولذلك انفجرت ضاحكا، والجميع ينظرون إلي مندهشين.
وصاح أبي غاضبا: “ماذا يضحكك؟”
ثم التفت إلى الشيخ محمد، وقال له: “هذا الولد مسه الجن.”
فنظرت إلي زوجة الصياد مرعوبة، وانصرفت وهي تستعيذ بالله.
أما أنا فقد حكيت ما حدث للأطفال وضحكنا كثيرا. فما رأيكم في تخاريف زمان التي بددها العلم بنوره؟!





