في الزمن القديم كان ملك الروم (دوقيانوس) كافرا، يعبد الأصنام ولا يؤمن بالله تعالى. وكان يعذب كل من لا يعبد الأصنام ويعبد الله تعالى، وقد يقتلهم، وكان عنده شرطة من الكفار يتجسسون على الناس؛ فإذا رأوا أحدا يصلي أخذوه إلى الملك فيعذبه حتى يكفر بالله تعالى، وإذا لم يكفر به قتله.
وكان في مدينة (أفسوس) التابعة لهذا الملك، ستة فتيان مؤمنون بالله تعالى، يعبدونه على دين سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، قبل أن يولد سيدنا محمد. وكانوا أصدقاء لا يفترقون عن بعضهم إلا قليلا، وكانت أسماؤهم مكسلمينا ويمليخا ومشلينا ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش.
ولما رأوا ظلم الملك الكافر، وما حل بالمؤمنين من قومهم من العذاب والفتنة، قرروا أن يفروا بدينهم؛ لئلا يصل إليهم الملك فيعذبهم أو يفتنهم. فحزموا أمتعتهم وجمعوا ما معهم من مال، وخرجوا معا خفية في الليل. وساروا فارين بدينهم من ظلم الملك دوقيانوس.
لقاء في الطريق وملجأ في الكهف
وفي الصباح جلسوا يصلون ويعبدون الله، وكان بالقرب منهم راع اسمه كفشطيوس يرعى غنمه، فلما رآهم يصلون، أتى إليهم وقال لهم: “أنا أعبد الله مثلكم، وأريد أن أذهب معكم إلى حيث تذهبون.”
فوافقوا على ذلك. وعند ذلك ذهب وسلم الغنم إلى صاحبها ثم عاد إليهم ومعه كلبه واسمه (قطمير)، وقال لهم: “هذا الكلب ينفعنا كثيرا إن شاء الله تعالى فهو يحرسنا ويحمينا من الأعداء والحيوانات.”
وهكذا أصبحوا سبعة وثامنهم كلبهم. وساروا حتى وصلوا إلى جبل قريب اسمه (ينجلوس)، فوجدوا فيه كهفا، فقالوا: “نعيش في هذا الكهف بضعة أيام، ونرسل كل يوم إلى المدينة من يأتينا بأخبارها وأخبار ما يصنعه الملك بها، كما يأتينا بما نحتاجه من طعام وشراب.”
وتطوع لهذا العمل (يمليخا)؛ فكان كل يوم يتخفى ويلبس ثيابا بالية ويأخذ معه قليلا من المال، وينزل إلى المدينة فيرى ويسمع ما يحصل فيها وما يحدثه الملك في أهلها من ظلم وتعذيب، ثم يشتري شيئا من الطعام والشراب، ويعود إلى رفاقه في الكهف فيقص عليهم ما رأى وسمع، ويعطيهم الطعام والشراب، فيأكلون ويشربون ويحمدون الله على ذلك.
نوم طويل ورعاية إلهية
ومضى على ذلك أيام. وفي أحد الأيام، بعد أن عاد يمليخا في المساء، وبعد أن أكلوا وشربوا وحمدوا الله تعالى وعبدوه؛ ناموا ونام كلبهم عند باب الكهف ليحرسهم، واستغرقوا في نومهم، فلم يستيقظوا إلا بعد ثلاثمئة سنة ميلادية (أو ثلاثمئة وتسع سنين هجرية)؛ هذا ما أراده الله لهم، وهو على ما يشاء قدير.
وهو كرامة لهم خارقة للعادة، فلم يحدث أن نام بشر ثلاثمئة سنة نوما طبيعيا، ثم استيقظ وهو بكامل صحته وقوته وكأنه نام منذ أمس فقط! وأثناء نومهم هذه الأيام الطويلة كانت الشمس إذا طلعت على الكهف تميل عنهم إلى اليمين، وإذا غربت تميل عنهم إلى الشمال؛ لئلا تؤذيهم. وكانوا يتقلبون إلى اليمين وإلى الشمال بقدرة الله تعالى؛ لئلا تأكل الأرض لحومهم.
استيقاظ بعد قرون ومدينة متغيرة
وعندما مضى على نومهم (ثلاثمئة سنة أو ثلاثمئة وتسع سنين)، وكان الملك الظالم دوقيانوس قد هلك وخلف من بعده ملوك صالحون مؤمنون إلى أن وصل الملك إلى الملك الصالح (بيدروس)، وفي زمنه استيقظ الفتية بعد نومهم الطويل في الكهف. وعندما استيقظوا لم يكونوا يعلمون أنهم ناموا ثلاثمئة سنة، لذلك تساءلوا فيما بينهم: “كم لبثنا في نومنا؟”
فقال بعضهم: “لبثنا منذ أمس فقط.”
وقال الآخرون: “الله أعلم بما لبثنا، وماذا يهمنا كم لبثنا؟! إننا الآن جائعون، فأرسلوا من يشتري لنا طعاما نسد به جوعنا على شرط أن يتلطف، ولا يدع أحدا يشك به، فيستدل الملك الظالم دوقيانوس وأعوانه علينا وعلى مكاننا فيأخذنا ويقتلنا.”
وتطوع يمليخا كعادته للذهاب، فأخذ بعض القطع الفضية من النقود التي معهم والتي عليها اسم دوقيانوس، ونزل إلى المدينة، فوجد أن الطريق لم يختلف كثيرا، ولكن عندما وصل إلى المدينة وجد أن السور غير السور القديم، والأبواب غير الأبواب القديمة؛ فكيف تغير كل ذلك بين يوم وليلة؟ والأعجب من ذلك أنه عندما وصل إلى أحد الأبواب وجد مكتوبا عليه مدحا لسيدنا عيسى، ومبلغ علمه أن دوقيانوس لا يؤمن بالله تعالى ولا بسيدنا عيسى، بل يعبد الأصنام، ويعذب الذين لا يعبدون الأصنام ويقتلهم! فتعجب من ذلك كل العجب، فكيف حدث هذا بين يوم وليلة؟!
عملة قديمة تثير الشكوك
ثم دخل المدينة وهو خائف يترقب، وقد أخفى نفسه بالثياب البالية، وأخذ يسير في شوارع المدينة، فوجد الشوارع غير الشوارع التي يعرفها، والبيوت غير البيوت التي يعهدها. فصار يشك في عقله، وهل هو في حلم أم في يقظة؟! وهل هذه مدينة أفسوس أم مدينة غيرها؟!
وسأل أحد المارين في الطريق عن اسم هذه المدينة، فقال له: “اسمها أفسوس.” إذن فكيف تغيرت بهذا الشكل بين يوم وليلة وعهده بها منذ أمس فقط؟!
وسار نحو إحدى الدكاكين التي تبيع الطعام وهو يقدم رجلا ويؤخر أخرى، حتى وقف عليها وألقى السلام، فرد صاحبها عليه السلام، فطلب بعض الأطعمة فوزنها صاحب الدكان وهيأها وقدمها له. فأخرج بعض النقود الفضية التي معه وقدمها للبائع، ولكن هذا عندما رأى النقود اندهش وتعجب وصار ينقل نظره بين النقود وبين يمليخا برهة من الزمن ثم قال له: “من أين لك هذه النقود، فنحن لا عهد لنا بها؟ هل سرقتها؟ هل وجدت كنزا قديما؟ أم أنت من بلدة أخرى غير هذه البلدة؟”
فارتبك يمليخا، فهو لا يريد أن يفتضح أمره وأمر رفاقه، فيستدل الملك الظالم دوقيانوس عليهم ويقتلهم. فقال للبائع: “أنا لم أسرقها ولم أجد كنزا، وأنا من هذه البلدة، أليست هذه مدينة أفسوس؟ وهذه النقود التي نتعامل بها دائما.”
وعندما عجز البائع عن معرفة الحقيقة من يمليخا أخذه إلى رئيس شرطة المدينة (آريوس)، وقال له: “هذا الرجل أعطاني نقودا لا أعرفها، ولا يريد أن يعترف من أين أتى بها، فلعله وجد كنزا أو سرقها.”
كشف الحقيقة أمام الملك الصالح
فاستقبل آريوس يمليخا باحترام، وأجلسه عنده، وصار يسأله عن مصدر النقود. فقال له: “هذه نقودي التي أستعملها كل يوم وأشتري بها كل يوم طعاما من هذه المدينة.”
فحصل بينهما مثل حوار الطرشان، فيمليخا يظن أن الملك الظالم دوقيانوس لا يزال حيا، وأن هذه المدينة هي مدينة أفسوس التي تركها يوم أمس، ورئيس الشرطة آريوس لا يعلم أن يمليخا من رعايا الملك دوقيانوس، وأنه نام ثلاثمئة سنة ثم استيقظ اليوم فقط.
وأخيرا قال له آريوس: “أرني النقود التي معك.” فأراه إياها. فإذا عليها اسم الملك دوقيانوس.
فقال له: “من دوقيانوس هذا؟”
قال له يمليخا: “هو ملك هذه المدينة، ألا تعرفه؟!”
فتعجب آريوس وقال له: “هل أنت مجنون أم عاقل؟ أم تسخر مني أم ماذا؟ إن ملكنا هو بيدروس وليس دوقيانوس!”
فتعجب يمليخا وشك في نفسه وفي عقله، فما هذا الذي يسمعه؟! ثم قال لآريوس: “وما صنع الله بدوقيانوس؟”
فقال له آريوس: “إننا لا نعرف ملكا اسمه دوقيانوس، ولم نسمع به أبدا.” فازداد عجب يمليخا، ولكنه اطمأن قليلا فدوقيانوس الظالم غير موجود على أية حال.
وأخيرا قرر رئيس الشرطة آريوس أن يأخذ يمليخا إلى الملك الصالح بيدروس. وعندما مثل بين يديه احترمه وأجلسه عنده وسأله عن قصته. فحكى له يمليخا القصة على حقيقتها عندما اطمأن إلى عدم وجود دوقيانوس الظالم. حكى له أن الملك دوقيانوس كان كافرا يعذب المؤمنين ويقتلهم، وأنهم هربوا منه إلى الكهف في جبل ينجلوس، فهم من مدينة أفسوس ومن رعايا دوقيانوس، وأنهم ناموا في الكهف منذ أمس على حد علمه، واستيقظوا اليوم، ونزل هو إلى المدينة ليشتري طعاما لرفاقه الذين ينتظرونه في الكهف.
آية إلهية ونهاية مباركة
فسأل الملك بيدروس حاشيته: “هل يعرف أحد منهم الملك دوقيانوس أو سمع به؟”
فقام أحدهم وقال: “أيها الملك الصالح، أنا أدرس التاريخ وأجمع كتبه، وعندي كتاب يقول: إنه منذ ثلاثمئة سنة كان يوجد ملك ظالم في أفسوس اسمه دوقيانوس يعبد الأصنام ويقتل المؤمنين، وقد هرب منه ستة من أشراف مدينة أفسوس هم مكسلمينا ويمليخا ومشلينا ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش، والتجؤوا إلى كهف في جبل ينجلوس.”
فقال يمليخا: “هذه أسماؤنا يا سيدي. ثم انضم إلينا الراعي كفشطيوس وكلبه قطمير.”
فتعجب الملك الصالح بيدروس من ذلك وقال: “إن هذه كرامة عظيمة لهؤلاء الفتية المؤمنين الصابرين، اذهبوا بنا لنراهم ونتبرك بهم.”
وذهبوا جميعا إلى الكهف ومعهم يمليخا حتى وصلوا إليه. وقبل أن يدخلوا قال يمليخا للملك: “دعوني أدخل قبلكم لكي أطمئنهم؛ لئلا يخافوا منكم ويظنوا أن دوقيانوس جاء ليأخذهم.”
فسمح له، فدخل يمليخا عليهم الكهف، وقص القصة على رفاقه وأن دوقيانوس هلك منذ ثلاثمئة عام، وأن أفسوس هي الآن بيد الملك الصالح المؤمن بيدروس. وعند ذلك اطمأنوا جميعا واضطجعوا فناموا النوم الأبدي في هذه المرة إلى يوم القيامة.
ولما أبطأ يمليخا على الملك بيدروس؛ دخل الكهف هو وحاشيته، فوجد الفتية وكلبهم أمواتا.
العبرة من القصة
هكذا ترون يا أبنائي أن من يواجه ظلم الحكام وكفرهم، ويخاف على نفسه الفتنة أو الهلاك؛ عليه أن يهاجر في الأرض، فأرض الله واسعة، وهو نعم المعين.