كان يا ما كان يا قارئين يا كرام بعد الصلاة والسلام على خير الأنام، وصحابته الكرام. كان يعيش في مدينة بغداد في قديم الزمان رجل اسمه أبو القاسم الطنبوري، وكان غنياً ولكنه بخيل، لا يشتري لعائلته حاجاتها إلا بصعوبة بالغة، ولا يغير ثيابه إلا إذا أصبحت بالية تماماً، حتى انفضت عنه عائلته وأصبح يعيش وحده في بيته.
وكان له مداس، ظل يلبسه سنين، كلما تمزق من ناحية وضع عليه رقعة حتى أصبح سبع رقع بعضها فوق بعض، وحتى أصبح ثقيلاً جداً، لا يستطيع المشي به إلا بصعوبة، بسبب كثرة الرقع فيه، ومع كل ذلك ما كان يبدله، ولا يشتري مداساً جديداً غيره على الرغم من سخرية الناس منه، وضحكهم منه ومن مداسه.
مغامرة البخيل أبي القاسم
دخل أبو القاسم يوماً إلى السوق، فقال له بائع الزجاج (البللور):
يا أبا القاسم، قد أتى تاجر من مدينة حلب ومعه زجاج مذهب جميل كاسات وقوارير، وقد كسد عنده هنا، اذهب واشتره منه فهو رخيص، وسوف تبيعه بعد مدة قصيرة وتربح به كثيراً.
فذهب أبو القاسم واشترى الزجاج بستين ديناراً.
ثم دخل أبو القاسم إلى سوق العطارين، فقال له أحد السماسرة:
يا أبا القاسم، قد أتى اليوم من مدينة الموصل تاجر معه ماء ورد فاخر، اذهب واشتره منه، وسوف تبيعه بعد مدة قصيرة وتربح به كثيراً.
فذهب أبو القاسم واشترى ماء الورد بستين ديناراً أيضاً، وملأ قوارير الزجاج التي اشتراها بماء الورد ووضعها على الرف في بيته.
المداس يسبب المتاعب
ثم ذهب أبو القاسم إلى الحمام لكي يغتسل، وخلع ثيابه ومداسه ودخل إلى الحمام، فقال له صاحب الحمام:
يا أبا القاسم، مداسك هذا قد أصبح بشعاً جداً وثقيلاً جداً، والناس يضربون المثل بمداس أبي القاسم، بسبب بشاعته وكثرة الرقع فيه، بدله بغيره يا رجل! فأنت رجل غني.
فسكت أبو القاسم ولم يرد عليه؛ لأنه لا يريد أن يدفع ثمن مداس جديد، وعندما خرج من الحمام وجد مداساً جديداً بجانب مداسه المهترئ، فظن أن صاحب الحمام قد أهداه هذا المداس الجديد، لذلك لبسه وذهب، وترك مداسه المهترئ في الحمام.
وبعد قليل خرج من الحمام صاحب المداس الجديد وهو القاضي، فلم يجد مداسه الجديد، ووجد بدلاً منه مداس أبي القاسم المهترئ، فقال:
لمن هذا المداس؟
قالوا:
هذا مداس أبي القاسم، لأن كل أهل البلد أصبحوا يعرفونه.
فأرسل القاضي رجاله فأتوا بأبي القاسم وبالمداس الجديد الذي أخذه، واتهمه القاضي بسرقة مداسه؛ لذلك أمر بضربه وحبسه.
المداس يعود من النهر
عند ذلك كره أبو القاسم مداسه هذه الإهانة التي سببها له؛ وعندما خرج من السجن ذهب إلى السوق واشترى مداساً جديداً رخيصاً، وأخذ مداسه المهترئ ورماه في نهر دجلة لكي يتخلص منه، فغاص في الماء إلى قعر النهر بسبب ثقله.
وبينما كان أحد الصيادين يصطاد في نهر دجلة، رمى شبكته، ثم سحبها فأحس بشيء ثقيل فيها، فقال في نفسه:
هذه سمكة علقت في الشبكة والحمد لله تعالى.
ولكنه عندما أخرج الشبكة من الماء لم يجد فيها سمكة كبيرة، وإنما وجد فيها مداس أبي القاسم، فعرفه، لأن كل أهل البلد أصبحوا يعرفون مداس أبي القاسم، وقال لنفسه:
الظاهر أن مداس أبي القاسم قد وقع منه في النهر، لذلك سوف أخذه له لعله يعطيني درهماً أو درهمين.
وأخذ المداس وذهب إلى بيت أبي القاسم فلم يجده في البيت، فحمل المداس ورماه من فوق الجدار إلى داخل البيت، فوقع على الرف الذي عليه قوارير ماء الورد فانكسر أكثرها، وسال منها ماء الورد على أرض البيت.
محاولات التخلص الفاشلة
وعندما أتى أبو القاسم ورأى ذلك لطم وجهه وصاح وبكى، فقد خسر ثمن الزجاج وثمن ماء الورد، ورأى مداسه فحمله بيده وقال له:
ما الذي أتى بك إلى هنا أيها اللعين؟ ألم أرمك في نهر دجلة لكي أتخلص منك؟! والله لأدفننك في التراب كما يدفن الأموات.
ثم أتى بمجرفة وصار يحفر الأرض بجوار حائط الجيران. وسمع الجيران صوت الحفر فظنوا أن أبا القاسم يريد أن ينقب الحائط عليهم، لذلك ذهبوا واشتكوا إلى القاضي، فأرسل القاضي رجاله فأتوا بأبي القاسم، فأمر بضربه وحبسه وتغريمه بعض المال؛ لأنه يؤذي جيرانه. فأخذ أبو القاسم يلعن هذا المداس الذي سبب له هذه الإهانات والغرامات وحلف أن يهينه كما أهانه.
لذلك عندما خرج من السجن أخذه ورماه في كنيف الخان، فانسد به مجرى الكنيف (وهو المرحاض، أي: مكان التبرز والتبول). وبعد بضعة أيام فاض الكنيف وانتشرت السوائل والروائح الكريهة، وجاء العمال لينظفوا مجرى الكنيف ويفتحوه، فوجدوا مداس أبي القاسم هو الذي سد مجرى الكنيف، فذهب أصحاب الخان واشتكوا للقاضي، فأرسل رجاله، فأتوا بأبي القاسم، فقال له القاضي:
مداسك سد كنيف الخان، وقد حكمنا عليك بدفع تكاليف إصلاح الكنيف، ودفع تعويض العطل والضرر لأصحاب الخان.
المداس يهين صاحبه للمرة الأخيرة
دفع أبو القاسم الغرامة التي عليه، وأخذ مداسه وذهب وهو محتار ماذا يصنع بهذا المداس اللعين الذي سبب له الإهانة والسجن وخسارة المال؟!. وأخيراً قرر أن يغسله من القاذورات التي لحقت به وأن يرميه على السطح لكي يجف. وبعد أن رماه على السطح مر به أحد الكلاب فظنه قطعة من العظم أو الجلد، فحمله بفمه وركض به، وأثناء قفزه من سطح إلى سطح سقط من فمه بسبب ثقله، فوقع على رأس رجل كان يمشي في الطريق فجرحه وطرحه أرضاً، فنظر الرجل حوله فرأى مداس أبي القاسم هو الذي أصابه، فأخذه وذهب إلى القاضي، واشتكى على أبي القاسم، فأمر القاضي بإحضاره، فأحضروه، فقال له القاضي:
لم يبق لنا شغل إلا أنت ومداسك يا أبا القاسم.. ماذا تريد أن نصنع بك وبمداسك؟! لقد أعيتنا وأتعبتنا.. ادفع لهذا الرجل تكاليف علاجه وتعطله.
فدفعها. وفي اليوم الثاني عاد أبو القاسم إلى القاضي وهو يحمل مداسه ووضعه أمامه، وقال له:
يا سيدي القاضي أنا أشهدك أني بريء من هذا المداس وهو بريء مني وليست لي أية علاقة به بعد اليوم، خذوه عني واكفوني شره، فقد سبب لي الإهانة والحبس والإفلاس.
فضحك القاضي وأمر رجاله أن يأخذوا المداس ويدفنوه في التراب في مكان بعيد.
العبرة من القصة
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: البخيل «يعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء». فما أتعسه وما أشقاه، لا تكن يا بني شحيحاً بخيلاً، وكن جواداً كريماً، فإن الله الجواد يحب الجود والكرم.