الكذب من أخطر الآفات التي تصيب المجتمع، لأنه يقلب الحقائق، ويخدع الناس، ويضيع الحقوق، ويهدي إلى الفجور. لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» (متفق عليه). والكذب من صفات المنافقين، فقد قال النبي: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان.» (متفق عليه).
كان يا ما كان يا قارئين يا كرام، بعد الصلاة والسلام على النبي خير الأنام وصحابته الكرام. كان يوجد تاجر غني، وأراد أن يشتري عبداً يخدمه في بيته ودكانه؛ وكان أسرى الحروب يباعون في الزمن القديم، كما تباع الأشياء؛ لذلك ذهب التاجر إلى سوق العبيد ليشتري عبداً.
العثور على العبد المخلص
وفي السوق طلب من تاجر العبيد عبداً نشيطاً قوياً ذكياً، فقدم له تاجر العبيد عبداً شاباً، قوي الجسم، جيد الصحة، متين الأعضاء، وقال له:
إن هذا العبد ذكي، قوي، يعرف القراءة والكتابة، كما يعرف عدة مهن أخرى، ولكن فيه عيباً واحداً.
فسأله التاجر:
ما هو هذا العيب؟
قال:
له يوم واحد في السنة كلها يكذب فيه.
قال التاجر:
يوم واحد في السنة أمر هين بسيط لا يؤثر فيه.
واشتراه من تاجر العبيد ودفع له ثمنه، وأخذه معه. لقد استهان التاجر بأمر هذه الكذبة في السنة، وسنرى ما ستكون النتيجة.
صار العبد يخدم سيده التاجر في بيته ودكانه بكل همة ونشاط، وذكاء وإخلاص، حتى راجت تجارة التاجر، وازدادت أرباحه بفضل همة هذا العبد وإخلاصه. فإذا احتاج التاجر لكتابة شيء كتبه له العبد، وإذا احتاج لقراءة شيء قرأه له العبد، وإذا احتاج لشراء بضاعة اشتراها له العبد بأقل الأسعار، وإذا احتاج لبيع بضاعة؛ باعها له العبد بأعلى الأسعار، كما استقامت أمور البيت أيضاً، فإذا احتاج الأمر لإصلاح شيء خشبي أو حديدي أصلحه العبد؛ فهو نجار وحداد، وإذا احتاج لخياطة شيء خاطه العبد فهو خياط أيضاً. وهكذا حتى أعجب التاجر بهذا العبد أيما إعجاب، ووثق به كل الثقة، وحمد الله تعالى على شرائه، ونسي العيب الذي فيه.
بداية الفتنة
وجاء اليوم الذي سيكذب العبد فيه. في صباح ذلك اليوم ذهب العبد إلى بيت سيده، وقال لزوجة التاجر:
إني أريد أن أقول لك خبراً وإن كان سيئاً، ولكن حرصي على مصلحتك يدفعني إلى قوله؛ لعلك تتداركين الأمر قبل فوات الأوان.
قالت:
وما هو هذا الخبر، قل وأسرع؟
قال:
سيدي يحب امرأة أخرى، وقد اتفقا على الزواج بعد بضعة أيام، فيجب أن تتداركي الأمر قبل فوات الأوان.
ولما كانت المرأة -بصورة عامة- تصدق بسرعة إشاعة زواج زوجها عليها، ولما كانت زوجة هذا التاجر تثق بهذا العبد كل الثقة، كثقة زوجها به، لذلك صدقت ما قاله العبد لها، وقالت له:
ما العمل؟ وكيف أستطيع منع ذلك؟
قال:
إني أعرف السحر أيضاً، فإذا أردت منع ذلك، ما عليك إلا أن تحلقي بضع شعرات من رقبة زوجك بموسى الحلاقة وهو نائم، دون أن يشعر، وأنا أصنع لك بها سحراً يجعله يكره تلك المرأة ولا يتزوج بها أبداً.
فوافقت زوجة التاجر على ذلك.
وشاية العبد بسيده
ثم ذهب العبد بعد ذلك إلى دكان سيده، واقترب منه وأسر له في أذنه قائلاً:
إني أريد أن أقول لك خبراً وإن كان سيئاً، ولكن حرصي على مصلحتك وحياتك يدفعني إلى قوله.
قال التاجر:
وما هو هذا الخبر؟
قال العبد:
إني علمت أن زوجتك تحب رجلاً آخر، وتريد أن تتزوج منه، وبما أنهما لا يستطيعان الزواج إلا بعد موتك، لذلك اتفقا على أن تذبحك زوجتك الليلة بموسى الحلاقة، لكي تتخلص منك، وتتزوج من الرجل الذي تحبه، لذلك فعليك بالحذر، ووالله لا يدفعني إلى قول ذلك إلا حبي وحرصي على سلامتك وحياتك.
نهاية مأساوية بسبب الكذب
وعندما سمع التاجر ذلك، استغرب هذا القول كثيراً، فهو يعرف إخلاص زوجته له وحبها له وهو يلبي لها طلباتها كلها، فلماذا تخونه؟! وقال في نفسه سوف لن أنام هذه الليلة لكي أتأكد من صحة هذا القول، وكان التاجر قد نسي العيب الذي في العبد، وأن له يوماً في السنة يكذب فيه، وذلك بعدما رأى من صدق العبد وإخلاصه وأمانته.
وفي المساء ذهب التاجر إلى بيته وبعد العشاء ذهب إلى فراشه للنوم، ولكنه لم ينم، بل تظاهر بالنوم، وكان من عادة زوجته أن تذهب للنوم أيضاً عندما يذهب هو، ولكنها لم تفعل هذه المرة، وظلت جالسة، تصلح ثوباً لها، فارتاب الزوج في الأمر، وتظاهر بالنوم، وصار يشخر شخيراً عالياً، لكي تعتقد زوجته أنه قد نام نوماً عميقاً. وعندما سمعت الزوجة هذا الشخير اعتقدت فعلاً أن زوجها قد نام نوماً عميقاً، فرمت الثوب من يدها، وقامت بهدوء على رؤوس أصابعها، وكان زوجها يلاحظها بعينه المفتوحة قليلاً، فرآها تذهب إلى الخزانة التي في الجدار وتفتحها، وتخرج منها موسى الحلاقة، وتفتحه، وتتقدم نحو زوجها بهدوء على رؤوس أصابعها؛ فأيقن الزوج بصدق قول العبد، وقال في نفسه يا لها من زوجة خائنة فاجرة.
وعندما وصلت الزوجة إلى فراش زوجها، ومدت يدها إلى عنقه، هب الزوج في وجهها وهو يصيح:
يا خائنة يا فاجرة يا كلبة تريدين أن تذبحيني لتتزوجي من عشيقك، بعد كل المعروف الذي صنعته معك؟!
وأمسك بيدها؛ فوجئت الزوجة، وارتاعت، وارتبط لسانها، وسقط الموسى من يدها، فتناوله الزوج وهو في ثورة غضبه وانفعاله، وذبحها به.
واستيقظ الأولاد على الضجة فجاؤوا يتراكضون إلى غرفة والديهم، فرأوا أمهم مذبوحة، فأخذوا يصيحون ويولولون، فسمعهم جيرانهم وهم أهل الزوجة، فأتوا مسرعين إلى بيت التاجر، ولما رأوا ابنتهم مذبوحة والموسى بيد الزوج، هجموا عليه وأخذوه منه، وذبحوه به.
وهكذا، بسبب هواية هذا العبد اللعين بالكذب في يوم من أيام السنة، وبسبب استهانة التاجر بهذا العيب، حدثت فتنة كبيرة، قتل فيها الزوج والزوجة، وتيتم الأولاد وانخرب البيت وسيق الجيران إلى المحاكم والسجون.
العبرة من القصة
إياكم يا أولادي والكذب، فإنه من أكبر الكبائر، فهو يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وحبل الكذب قصير، سرعان ما ينكشف فينقلب الربح الذي يأمل فيه قائله إلى خسارة كبيرة في الدنيا وفي الآخرة عذاب شديد. وعليكم بالصدق؛ فهو يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، وفي الصدق النجاة في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة.