صالح وخليل، نشأا في أحد أحياء مدينة حلب السورية، في بيتين متجاورين، عمرهما واحد، ومدرستهما واحدة، والشارع الذي يلعبان فيه واحد. ما كانا يفترقان أبداً إلا ليأكلا أو يناما، كانا يذهبان معاً إلى المدرسة، ويلعبان معاً في الشارع، ويذاكران معاً دروسهما، لذلك شبا صديقين حميمين، كأخوين توأمين. ولكن هل تصفو لهما الأيام هكذا؟ وهل يدوم للدنيا حال؟ وسالمتك الليالي فاعتررت بها … وعند صفو الليالي يحدث الكدر
الفراق المؤلم
تأخرت أحوال والد صالح، وساءت حالته المالية في حلب، ولم يعد له عمل يعيش منه، وكان له أقارب في مدينة بغداد، فصمم على أن يرحل عن حلب إلى بغداد لعل أقاربه يساعدونه هناك، فيجدون له عملاً يعيش منه هو وعائلته. وأخبر صالح بذلك خليلاً، فاغتم وحزن، كما اغتم صالح وحزن قبله أيضاً، ولكن ماذا يفعلان؟! وهذا حكم الله، ولا راد لحكمه ومشيئته. وكانا يجتمعان فيبكيان، ويفترقان فيبكيان، وتعاهدا على أن يتصلا ببعضهما بالمراسلة باستمرار، فالمراسلة نصف المشاهدة.
حل يوم السفر، يوم الفراق، وكان يوماً مشهوداً، علا فيه النحيب والبكاء، ولكن لا بد مما ليس منه بد. وركب صالح وعائلته القطار الذاهب إلى بغداد، وسار القطار وصالح يلوح بيديه لصديقه خليل الذي جاء لوداعه، وخليل يلوح له أيضاً. ودموعهما تجري على خديهما في صمت وسكون، حتى غاب القطار عن عيون خليل، وغاب خليل عن عيون صالح.
وانتقلت المشاهدة عند ذلك من العين إلى القلب وتلفتت عيني ومذ خفيت … عني الطلول تلفت القلب
تطور الأحوال وتدهورها
ظل الصديقان على الاتصال فيما بينهما بالمراسلة، فكانا يكتبان إلى بعضهما رسالة كل يوم تقريباً، ثم صارا يكتبان كل أسبوع، وبعد أن طال الزمن وضعفت الهمة صارا يكتبان كل شهر، ثم كل بضعة أشهر، ولكنهما ظلا على اتصال فيما بينهما على كل حال. ودارت الأيام، وكرت السنون، واشتغل والد صالح في بغداد بالتجارة وتحسنت أحواله، ودرس صالح في الجامعة وتخرج منها حاملاً شهادة الاقتصاد، وتوفي والده، واشتغل هو بالسياسة حتى أصبح وزيراً للاقتصاد في بغداد.
أما خليل فقد توفي والده، ولم يستطع أن يكمل دراسته، وصار يعمل في دكان والده في حي السويقة. وفي إحدى الليالي حدث حريق في حي السويقة أتى على الحي بأكمله بما فيه دكان خليل، وهكذا نام غنياً ميسوراً، واستيقظ فقيراً معدماً.
ضاقت به الأحوال، وانسدت في وجهه الأبواب، فعزم على السفر إلى صديقه صالح في بغداد، وركب القطار إلى هناك، وعندما وصل إلى بغداد نزل في أحد الفنادق الرخيصة.
وفي الصباح ذهب إلى وزارة الاقتصاد، وكتب اسمه على قصاصة من الورق، وأعطاها إلى حارس الوزير، وعندما رآها الوزير خرج بنفسه، واستقبل صديقه العزيز، وأدخله إلى مكتبه، وبعد أن سأله عن صحته وأحواله سأله عن سبب مجيئه إلى بغداد، فقص عليه كيف حدث الحريق في السويقة، وكيف احترقت دكانه فأصبح فقيراً معدماً، لذلك جاء إلى بغداد راجياً أن يجد له صديقه صالح عملاً يعيش منه.
صدمة ورفض غير متوقعين
فطمأنه صديقه الوزير وقال له:
اذهب معي الآن لكي نتغدى معاً، وعد إلي غداً في الصباح.
وعندما عاد خليل في اليوم التالي إلى مكتب صديقه صالح، فاجأه هذا بقوله:
إن وزارة الاقتصاد لا توظف إلا الذين يحملون شهادات جامعية، وأنت لم تكمل دراستك يا صديقي، لذلك فعليك أن تفتش عن عمل بنفسك، وإنني متأسف لأنني لا أستطيع مساعدتك.
فخرج خليل من مكتب صديقه وهو لا يرى طريقه من شدة الحزن والألم، فقد انهارت آماله كلها فجأة. وجلس على أول مقعد وجده في طريقه على شاطئ دجلة وصار يفكر ماذا يصنع، فقد انهارت آماله كلها، وهو لا يعرف أحداً في بغداد، وليس معه مال يعيش منه، واسودت الدنيا في عينيه، وسالت دموعه على خديه.
الأمل يتجدد
وفجأة جلس رجل بجانبه، ولما رآه على هذه الحالة سأله عما به، فحكى له قصته كلها، وكيف أنه الآن أصبح يائساً جداً لا يعلم ماذا يصنع، فقال له الرجل:
ما دام عندك خبرة في التجارة، فأنا عندي مخزن للتجارة، وقد تقدمت سني وتأخرت صحتي، فتعال اشتغل معي.
فوافق خليل حالاً، وفرح فرحاً شديداً. وعاد الأمل إليه بعد اليأس الشديد. وصار يعمل في مخزن الرجل، وينام في غرفة صغيرة ملحقة بالمخزن.
بعد بضعة أشهر تحسنت تجارة المخزن بفضل إخلاص خليل في العمل، فقال له الرجل:
إنك تاجر ممتاز، فلماذا لا تتزوج هنا وتستقر ويصبح لك عائلة وأولاد؟
فأجابه خليل:
ومن يزوجني وأنا لا أعرف أحداً ولا أملك شيئاً؟!
فقال له الرجل:
أنا عندي بنت ليس لي أولاد غيرها، وقد سجلت هذا المخزن باسمها، فإذا كنت توافق على الزواج منها يصبح هذا المخزن ملككما، فتحصل على الزوجة والمال معاً.
فوافق خليل حالاً وهو يكاد يطير من الفرح.
كشف الحقيقة
وفي ليلة العرس صنع التاجر والد العروس وليمة عظيمة دعا إليها أعيان البلد ومنهم الوزير صالح. وبعد أن تناولوا الطعام جلسوا يتحدثون، فقال لهم صالح:
سأقص عليكم أغرب قصة مرت علي في حياتي: إنني نشأت في مدينة حلب، وكان لي فيها صديق هو أعز علي من أخي، لذلك حزنت حزناً شديداً عندما تركت حلب وسافرت مع عائلتي إلى بغداد، ولم أنس صديقي طوال حياتي، وتحسنت أحوالي هنا في بغداد حتى صرت وزيراً، ومع ذلك لم أنس صديقي، وفرحت به فرحاً شديداً عندما أتى من حلب إلى بغداد بسبب احتراق دكانه في حلب منذ بضعة أشهر، وجاء إلى مكتبي يطلب مساعدتي، ولكنني رأيت أنني إذا ساعدته مساعدة مباشرة بالجاه أو بالمال، فإنه سيشعر بالذل طوال حياته أمامي، لذلك استمهلته إلى الغد، وأرسلت إلى صديقي التاجر صاحب هذا البيت وطلبت منه أن يأتي إلى مكتبي في صباح الغد حتى إذا رأى الرجل الحلبي يخرج من عندي يتبعه ويساعده بكل ما يستطيع. وأنا أقدم له كل ما تكلفه مساعدته.
النهاية السعيدة
وقد كان ذلك، ونجح صديقي في عمله ولله الحمد، ونال إعجاب التاجر بإخلاصه واستقامته حتى زوجه بنته ووهب له مخزنه وماله، واسم صديقي هذا خليل، وهذه الليلة هي ليلة عرسه فهنيئاً له.
فقام خليل واعتنق صديقه وهو يشكره، ويطلب منه أن يسامحه على سوء ظنه به. وعاشا بقية حياتهما في بغداد صديقين حميمين كأخوين توأمين مثلما كانا في حلب.
العبرة من القصة
الصداقة إخلاص ووفاء، وليست كلاماً في كلام.