يقول الله له في القرآن الحكيم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾. وقال أيضاً: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾.
لذلك فإن الله يستجيب الدعاء إذا صدر من قلب مؤمن، تقي، مخلص، متذلل، متضرع، مظلوم، مستغيث برحمة الله تعالى. وقد قال النبي: «الدعاء هو العبادة» (حديث حسن صحيح). وفي رواية أخرى: «الدعاء مخ العبادة»؛ لأنه يجدد عبودية المرء لربه واحتياجه إليه، وتوكله عليه.
من أجل ذلك كله كان الدعاء مفرجاً للكروب، إذا استوفى شروطه المطلوبة. ولعل قصة أبي معلق له أكبر دليل على ذلك. وقد روى هذه القصة ابن أبي الدنيا في كتابه (مجابو الدعوة)، عن الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه، وهي كما يلي مع تصرف في الشرح والكلام.
رحلة التجارة والعودة
الصحابي أبو معلق رضي الله عنه كان متوسط الحال، يعمل في التجارة، يشتري ويبيع، وما يحصله من الربح كان ينفقه على عياله وأولاده، وكان أحياناً إذا كسدت بضاعته في بلده يحملها على دابته ويجوب بها القرى ليبيعها لسكانها الذين يصعب عليهم السفر إلى المدينة ليشتروا حاجاتهم منها.
وفي إحدى المرات حمل بضاعته البسيطة على دابته وراح يجوب بها القرى ويبيع منها إلى الذين يحتاجون إليها إلى أن باعها كلها، وحقق بها ربحاً لا بأس به، حمد الله تعالى وشكره عليه، ووضع ماله في وسطه واتجه عائداً إلى بلده لينفق منه على عائلته وأولاده الذين كانوا بانتظاره يتسقطون أخباره وينتظرون عودته بفارغ الصبر، بعد أن طال غيابه ونفد المال الذي تركه لهم لينفقوه على معيشتهم، وأخذوا يستدينون من أقاربهم وجيرانهم ومعارفهم إلى حين عودته.
وأخذ أبو معلق رضي الله عنه يحث دابته على السير لكي يصل إلى بلده في أقصر مدة ممكنة؛ لكي يرى أهله وعياله؛ فقد زاد شوقه إليهم بعد أن طال غيابه عنهم. وكانت الجزيرة العربية – في ذلك الوقت – تنعم بالأمن والأمان، بعد أن انتشر فيها الإسلام، وعم قراها ومدنها وقبائلها، وبعد أن توعد الله الذين يقطعون الطريق ويفسدون في الأرض بأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأن ينفوا من الأرض. ولكن الأرض لم تخل من النفوس السيئة الشريرة في يوم من الأيام، حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن صحابته الكرام، مع أن قرنهم كان خير القرون، لأن الشيطان لم يمت منذ أن نزل إلى الأرض، وسيبقى حياً إلى يوم القيامة، وهو يوحي إلى أعوانه من ذوي النفوس الشريرة زخرف القول غروراً، ويمنيهم بالغنى والمال والجاه والسلطان، ويزين لهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويغريهم بارتكاب الحرام والمنكرات، وبخاصة إذا كانوا بعيدين عن أعين الناس، ولكن عين الله لا تغفل ولا تنام.
اللص يهدد أبا معلق
وبينما كان أبو معلق رضي الله عنه يجوب الفيافي والقفار (الصحاري) مسرعاً في العودة إلى بلده وأهله وأولاده، كان هناك رجل آخر من الأعراب، من ذوي النفوس الشريرة، الذين استولى الشيطان عليهم، وعشش في عقولهم وقلوبهم، وزين لهم طريق الشر والرذيلة والحرام، فأخذوا يفسدون في الأرض، يقتلون وينهبون ويسرقون، ويعيشون على الحرام مما ينهبون ويسرقون.
كان في تلك الفيافي والقفار طريقان: طريق الخير يسير عليه أبو معلق رضي الله عنه يبغي الحلال ويكسب الحلال ويعيش بالحلال، وطريق الشر يسير عليه أحد أعوان الشيطان من الأعراب يبغي الحرام ويكسب الحرام ويعيش بالحرام. وتقاطع الطريقان في نقطة الالتقاء عند الشجرة.
وجد أبو معلق رضي الله عنه في طريقه شجرة كبيرة الأغصان وارفة الظلال، وكان قد أتعبه السير السريع، فوقف تحت الشجرة ونزل عن دابته لينال قسطاً من الراحة. وربط دابته بالشجرة وأخرج من رحله قربة ماء فشرب منها وتوضأ وصلى، ثم أخرج من رحله أيضاً بضع تمرات، أكلها وحمد الله تعالى وشكره على ما تفضل به وأنعم، ثم اضطجع ليستريح فأخذته غفوة من النوم.
في هذه اللحظة وصل عون الشيطان من الأعراب إلى الشجرة، ونظر فوجد دابة مربوطة بالشجرة وعليها متاع، ووجد رجلاً نائماً تحت الشجرة وبجانبه سلاحه، سيفه وقوسه ونبله، فأسرع في الاستيلاء على السلاح، السيف والقوس والنبل أولاً، ثم شهر سيفه وصاح بالرجل النائم، فهب أبو معلق من نومه مذعوراً، ونظر حوله فرأى رجلاً شاهراً سيفه، فأهوى بيده إلى جانبه ليلتقط سيفه وسلاحه فلم يجد شيئاً، وضحك الرجل الواقف أمامه شاهراً سيفه وقال له:
إن سلاحك أصبح تحت يدي، وقد أصبحت الآن دون سلاح، كما أصبح متاعك ودابتك لي، والآن أخرج ما معك من المال قبل أن أضرب عنقك بهذا السيف.
الدعاء ينجي من الهلاك
ولم يكن أبو معلق جباناً، ولكنه بعد أن فقد سلاحه، وأصبح السلاح كله بيد ذلك الرجل الشيطان، ماذا يستطيع أن يفعل غير الامتثال؟! لذلك أخرج ماله من وسطه ووضعه بين يدي الرجل، وهو يقول:
هذا كل ما معي من مال.
فأخذه الرجل ثم قال:
والآن استعد للموت فإني سأقتلك.
فقال له أبو معلق رضي الله عنه:
ولماذا تقتلني يا رجل وقد أخذت دابتي وكل سلاحي ومتاعي ومالي؟! وفي بلدي زوجة وأولاد صغار ينتظرونني، أليس عندك رحمة؟! ألست مسلماً؟
فأجابه الرجل:
إنني لا أفهم شيئاً مما تقول، ولا بد من قتلك لأنني إن تركتك حياً فإنك ستخبر عني، فيقطعون يدي ورجلي من خلاف وينفونني من الأرض.
فقال له أبو معلق:
أقسم لك إنني لن أخبر عنك، وأنا لا أعرفك فكيف أخبر عنك؟؟ اتركني لزوجتي وأولادي الصغار، إن لم ترحمني فارحم أولادي فليس لهم أحد سواي!.
فصاح الرجل:
كفى ثرثرة وكلاماً، لا بد من قتلك فاستعد لذلك.
فلما رأى أبو معلق رضي الله عنه الجد في قوله قال له:
إذا كان لا بد من قتلي فدعني أصلي ركيعات قبل قتلي، سنها لنا خبيب بن عدي(1) عندما قتله كفار قريش وأقره النبي فأصبحت سنة.
فقال له الرجل:
صل ما شئت فأنا بانتظارك.
وجلس غير بعيد عنه يراقبه وبيده سيفه.
وقام أبو معلق إلى قربته فتوضأ منها، وأخذ يصلي أربع ركعات بتذلل وخشوع، واستغاثة وخضوع، ولسان حاله يقول:
أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فإني مظلوم.
وفي السجدة الأخيرة من صلاته دعا بهذا الدعاء ثلاث مرات متواليات:
«يا ودود يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما يريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني».
النصر من عند الله
وما أكمل المرة الثالثة من الدعاء حتى سمع جلبة من بعيد وصوت حوافر جواد يعدو نحوهم بسرعة كبيرة، وصوت شخص يقول:
نصرت يا عبد الله.
فرفع رأسه ونظر أمامه فرأى فارساً يعدو نحوهم على فرسه، وبيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه، وبسرعة السهم وصل إليهم وطعن اللص بالحربة في صدره فخرجت تلمع من ظهره فخر ميتاً على وجهه.
وعند ذلك أسرع أبو معلق صلاته وسلم منها، وقام فتعلق بالفارس وقال له:
من أنت يرحمك الله؟ لقد أنقذتني من موت أكيد على يدي هذا اللص اللعين.
فأجابه الفارس:
أنا ملك من السماء الرابعة، عندما دعوت في سجودك المرة الأولى اهتزت السماء، وعندما دعوت المرة الثانية حدثت قعقعة ارتجت لها السماء، وعندما دعوت المرة الثالثة استأذنت ربي أن أنزل لنصرتك فأذن لي.
ثم طلب أبو معلق الرجل فلم يجده فقد اختفى فجأة كما ظهر. ويقول ابن أبي الدنيا في تعليقه على هذه القصة: كل إنسان مظلوم ومطعمه حلال ومشربه حلال، يستجاب دعاؤه إن شاء الله تعالى ما لم يدع بإثم أو بقطيعة رحم.
ويقول العلماء: لقبول الدعاء شروط في الأزمنة والأمكنة والأشخاص: فيقبل الدعاء في ليلة القدر، ويوم عرفة، وشهر رمضان، وليلة الجمعة ويومها، وفي جوف الليل وخاصة في الثلث الأخير منه، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وعند الإقامة، وبعد الصلاة المكتوبة، وفي السجود، وقبل السلام من الصلاة، وعند تلاوة القرآن، وعند الصف للجهاد في سبيل الله تعالى، وعند شرب ماء زمزم وعند رؤية الكعبة، وعند نزول الغيث. ويقبل الدعاء في البيت الحرام، وعلى جبل عرفات، وعند الصفا والمروة، وعند رمي الجمار، وعند تقبيل الحجر الأسود، وفي الملتزم (بين الحجر الأسود وباب الكعبة)، وفي حجر إسماعيل، وفي الطواف، وعند الركن اليماني، وفي مقام إبراهيم، وفي المسعى، وفي المزدلفة، وفي الحرم النبوي، وعند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الروضة، وفي البقيع، وعند استقبال القبلة. ويقبل دعاء المضطر والمظلوم، والوالدين والولد البار، والإمام العادل والرجل الصالح، والصائم حين يفطر، والمسافر والتائب من الذنب، ودعاء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب. كل ذلك بشرط أن يكون المطعم حلالاً والمشرب حلالاً والملبس حلالاً، وألا يدعو بإثم أو بقطيعة رحم. وإذا قبل الدعاء إما أن يعجل في الدنيا، أو يدخر إلى الآخرة، أو يصرف عن الداعي من السوء ما يماثله.
العبرة من القصة
الدعاء يفرج الكروب إذا تحققت شروطه.
(١) خبيب بن عدي رضي الله عنه: أسره مشركون من قبيلة هذيل عند ماء (الرجيع) بين عسفان ومكة المكرمة في أواخر السنة الثالثة للهجرة، وباعوه إلى أولاد الحارث بن عامر بن نوفل من قريش ليقتلوه بأبيهم الحارث الذي كان خبيب قد قتله يوم بدر، وعندما أرادوا قتله طلب منهم أن يصلي ركعتين، فسمحوا له، وقد أقر النبي ذلك فأصبحت سنة لمن يراد قتله أو إعدامه.