قصة الماجد أبو لحية

استكشف قصة الماجد أبو لحية، حكاية مشوقة للأطفال عن الصداقة، الغنى، والفقر، واكتشاف هوية غامضة تقلب حياة الجميع في المدينة.
جدول المحتويات

في قديم الزمان، وفي إحدى المدن المزدهرة في عهد الخليفة هارون الرشيد، عاش صديقان حميمان هما عبد الله وإبراهيم. نشأ الصديقان معًا، ولكن مع مرور السنين، سلك كل منهما طريقًا مختلفًا. أصبح عبد الله تاجرًا ناجحًا وثرى، بينما ظل إبراهيم فقيرًا يعمل حمالًا في الميناء.

رغم نجاح عبد الله، بدأ يتجاهل إبراهيم، حتى قرر أن يقطع علاقته به تمامًا. وفي يوم من الأيام، تقدم عبد الله لخطبة فتاة تُدعى صافيناز، ابنة إبراهيم، لابنه حامد. ولكن، وبعدما رأت أم حامد الفتاة، قررت أن الفتاة غير مناسبة لابنها وأرسلت في اليوم التالي لإرجاع الهدايا وإلغاء الخطبة.

وبعد فترة قصيرة، ظهر رجل غامض يُدعى السيد أبو لحية، تقدم لخطبة صافيناز وقدم لعائلتها هدايا ثمينة بشكل منتظم. بدا هذا الرجل وكأنه خرج من الأساطير، بحسن طلعته وكرمه الذي لم يكن له مثيل. وافق إبراهيم على خطبته لابنته، وعاشت العائلة في رغد بفضل هذا الخطيب الغامض.

ولكن عبد الله لم يكن سعيدًا بهذا التحول. فقد انتشر في المدينة أن صافيناز قد سُحرت بهذا الرجل الغامض، وقرر عبد الله أن يشكو الأمر إلى السلطان. استدعى السلطان صافيناز ووالدها لسماع الحقيقة. وبعد استجواب طويل، أدركت صافيناز أن السيد أبو لحية ليس سوى السلطان نفسه، الذي أراد الزواج بها.

أعلن السلطان حسم القضية لصالح صافيناز، مما أصاب عبد الله بالدهشة والخجل. وعندما عرض السلطان على إبراهيم اختيار عقوبة لعبد الله، قرر إبراهيم أن يسامحه، قائلاً إن ما عاناه عبد الله كان كافيًا.

وفي النهاية، تزوج السلطان من صافيناز في حفل بهيج، واحتفل أهل المدينة بزفافهما، وعاد السلام والوئام بين العائلتين. وهكذا، انتهت القصة بخير وسعادة، مع درس مهم حول التسامح والكرم الحقيقي.

قصة الماجد أبو لحية مكتوبة

في عهد الخليفة هارون الرشيد (786 – 809م) بلغت بغداد قمة المجد والازدهار وانتشرت العلوم والحضارة في شتى بقاع الإمبراطورية الإسلامية، وعجت مدن الإمبراطورية وموانئها بحركة تجارية وثقافية واسعة. وكانت البصرة، المطلة على الخليج العربي، إحدى هذه المدن، تؤمها السفن من الهند وبلاد الشرق الأقصى حاملة الجواهر والتوابل والبخور والحرير. وكان تجار البصرة ونواحيها يشترون هذه البضائع النفيسة وينقلونها في قوافل عبر الصحراء إلى بغداد ومدن حوض البحر المتوسط الغنية.

كانت المدينة بمختلف أحيائها تزخر دومًا بالحركة، قوارب وسفن تصلها معبأة بنفائس الشرق، وقوافل الإبل الناشطة تغادر بالاتجاه الآخر. ومع القادمين والمغادرين كانت تأتي قصص البحر الشاسع ومغامرات الصحاري الفسيحة بسحرها ومخاطرها. لقد كانت الحياة في المدينة منعة وتحديًا معًا.

نشأة الصبيين عبد الله وإبراهيم

كان من سكان أحد أحياء هذه المدينة الصبيان عبد الله وإبراهيم، اللذان دأبا على الاستمتاع بما يجري حولهما. ففي كل يوم، بعد عودتهما من المدرسة، كانا يقصدان الميناء لمراقبة السفن وهي تفرغ حمولاتها النادرة من نفائس وأفاوية كالقرفة وجوز الطيب وكبش القرنفل التي تعبق الأجواء بعطرها. وأحيانًا كانت السفن تحضر حيوانات غريبة مثل السعادين والطواويس والببغاوات. لقد تعززت أواصر الود بين عبد الله وإبراهيم حتى غدا الغلامان وكأنهما أخوان.

مرت السنين، وشب الغلامان عن الطوق، وزاول كل منهما حرفة يكسب منها ما يعزز دخل العائلة، فلم تكن كلا أسرتيهما من أصحاب الثراء. اشتغل عبد الله أجيرًا عند تاجر في سوق المدينة يتعامل بمختلف أصناف التجارة من الأفاويه (التوابل) والحرير والسجاد والأحذية والنحاسيات والفضيات إلى زيت الطبخ والسمك المجفف.

رحلة عبد الله نحو الثراء

بحكم عمله، عبر عبد الله الصحراء عدة مرات برفقة قوافل تضم منات الإبل المحملة بمختلف السلع، فزار دمشق والقدس وحلب والقاهرة. وكان في كل مرة يعود بأخبار وحكايات تلك المواقع، وبربح وفير تراءدت به حظوته عند سيده. وسرعان ما أتقن عبد الله سر مهنته، فراح يشارك هو في تجارة خاصة مستقلاً عن سيده. ولم يمض وقت طويل حتى أصبح هو من التجار المرموقين. فتزوج فتاة من أهل الثراء، وتملك قطعة أرض كبيرة في الحي، شاد عليها قصرًا فخمًا فسيحًا زينت ساحاته بالآجر المزخرف والنوافير الرخامية.

تحول علاقة عبد الله بإبراهيم

في تلك الأثناء، قلما وقعت عين عبد الله على صديقه القديم إبراهيم، رغم أنهما ما زالا جارين. والحقيقة أن عبد الله كان كلما صادف إبراهيم تابع السير متظاهرًا بأنه لم يره. لقد اختار إبراهيم العمل في إفراغ السفن على أرصفة الميناء منذ التحق صديقه عبد الله بمولاه التاجر، ولم تتحسن حاله كثيرًا طوال تلك المدة. ولقد ظل يروق له منظر المراكب تعبر الميناء أو تغادره، لكن ما عاد يهزه منظرها مثقلة بالحمولة، لأن إفراغها كان يقع على عاتقه وعاتق زملائه.

لقد كان إبراهيم حمّالًا من بين الحمالين في الميناء، يرزح في حرارة الشمس ويتفصد عرقًا تحت أكياس الدقيق والأرز والأفاويه والفاصولياء. وكان يتقاضى أجرًا بقدر ما يحمل، لكن دخله ظل قليلًا ومحدودًا رغم الكثير الذي كان يحمله!

حياة إبراهيم وعائلته

كان إبراهيم لا يزال يعيش في بيتهم القديم مع والدته العجوز وزوجته وولديه صافيناز وعامر. وكان العسر يحيق بهم؛ جدران البيت متداعية، والسقف يدلف كلما أمطرت، والدخل شحيح. لكنهم تعودوا على تحمل ذلك كأنه قدر أجيال الفقراء أمثالهم، سابقًا ولاحقًا. وكان باستطاعة إبراهيم وعائلته رؤية الأشجار الوارفة الظلال في الحدائق حول بيت عبد الله. لم يكن إبراهيم يحسد عبد الله على ذلك، بل على العكس، فقد كان نجاح صديقه مدعاة لسروره. ولم يكن إبراهيم على علم بمدى الغنى الذي حققه صديقه، فهو يلمحه في السوق من حين لآخر، ولم يحدث أن دعاه عبد الله قط لزيارته في منزله.

تطورات عائلية

مرت الأعوام وكبر أبناء العائلتين؛ وسار حامد في خطى والده عبد الله، وحقق من النجاح ما يبشر بأنه يجاريه. وذات يوم أتى حامد والده قائلًا: “يا أبتِ، لقد بلغت السن التي ينبغي أن يفكر الشاب فيها بالزواج. هل فكرت لي بالفتاة التي تراها مناسبة لي؟”

لقد جرت العادة في تلك المدينة، كما في أنحاء كثيرة من العالم، أن يقوم الوالدان باختيار العروس المناسبة لابنهم. وكان عبد الله وزوجته قد بدآ التفكير فعلًا في الأمر، لكن اختيارهما لم يقع بعد على الفتاة (والعائلة) المناسبة. أطْرق عبد الله قليلًا أمام طلب حامد ثم أجاب: “سأتدارس الأمر مع والدتك”.

بحث أم حامد عن العروس المناسبة

أخذت زوجة عبد الله تبحث عن الزوجة المناسبة لولدها بحماس شديد، فراحَت تزور الأسر الصديقة ومعارف الأسر الصديقة تراقب بناتهن بهدوء وتأني. لكن الفتاة المنشودة لم تكن بينهن. فهذه صغيرة على حامد، وتلك تفوقه سنًا، وهذه طائشة نزقة، وتلك مدللة، والأخرى متطلبة نكدة. فلم يكن هناك من ستسعد حامد. والوحيدة التي نالت رضاها كانت مخطوبة بعقد مكتوب!

في البداية، لم تكن أم حامد تطلع أحدًا على الغرض من زياراتها. لكنها اضطرت، بعد إخفاق مساعيها، إلى الاستعانة بالمقربات من الصديقات لإيجاد الكنة العتيدة.

اكتشاف صافيناز

وفي يوم جاءت إحدى الصديقات إلى أم حامد تقول: “أتعرفين صافيناز ابنة إبراهيم، صديق الطفولة لزوجك عبد الله؟ إنها لؤلؤة، قمر بين النجوم خلقًا وخلقًا. إنني على ثقة أنك لو تقابلينها فلن تحتاجي إلى مزيد من البحث. إن ولدك سيكون بها أسعد الرجال”.

عرضت أم حامد الفكرة على زوجها، مؤكدة أن فقر إبراهيم لا ينبغي أن يكون حجر عثرة في سبيل سعادة ولدهما. فإذا كانت صافيناز حقًا كما تصف الصديقة، فإن مال عبد الله كفيل بكفاية العائلتين. ولم تلبث أم حامد أن أرسلت خادمًا إلى بيت إبراهيم ليعلمهم مسبقًا بزيارتها.

وفي اليوم التالي، كانت أم حامد ضيفة معززة في بيت إبراهيم المتواضع. كانت حريصة ألا تبوح لمضيفتها بالسبب الحقيقي لزيارتها، فأدارت الحديث عن الأيام الخوالي، مستعيدةً ذكرى الصداقة القديمة بين زوجيهما. وجلست السيدتان تحتسيان القهوة وتتناولان البقسماط وتتبادلان أطراف الحديث. وحين جاءت المضيفة على ذكر ابنتها صافيناز، أعربت أم حامد عن رغبتها في رؤية الفتاة. وما إن وقعت عيناها على صافيناز حتى أدركت أن ما تقوله الصديقات عنها يقصر عن الواقع!

عرض الزواج

قدمت المضيفة ابنتها إلى ضيفتها بشيء من الاعتزاز قائلة: “هذه هي ابنتي صافيناز!” ثم وجهت الكلام إلى ابنتها قائلة: “قربي، سلمي على جارتنا – زوجة صديق أبيك القديم!” وسط دهشتها مما رأت، راحت أم حامد ترتجل بضعة أسئلة وجهتها إلى صافيناز، وكان إعجابها بها يزداد مع كل كلمة من إجاباتها. وأخذت الأفكار تدور في رأس أم حامد قائلة لنفسها: “إنها حقًا رائعة، قمر بين النجوم. كيف غاب هذا الجمال والكمال عن انتباهنا؟ إنها العروس المنشودة!”

أمام هذا الموقف، لم تستطع أم حامد إلا الكشف عن الغرض من حضورها، وأعلنت أن ما كانت تنشده قد وجدته. امتدت يدها إلى جيبها وسحبت صندوقًا فضيًا صغيرًا قدمته إلى صافيناز قائلة: “أريدك أن تحتفظي بهذا الصندوق، إنه لك، ولكن فقط فكري مليًا في عرض ولدي الزواج منك.”

نظرت صافيناز نحو والدتها قبل أن تتسلم الصندوق، وحين أومأت الأم إيجابًا، تناولت الابنة الصندوق قائلة: “أعدكِ، بكل سرور.”

الهدايا والتردد

كان في الصندوق ثلاثة خواتم رائعة الترَصيع وعقد فاخر مكون من أسلاك الذهب والفضة وحبات من الزمرد والياقوت والماس، تبهِرُ الأنظار. إنها حقًا هدية لا تُقدَّر بثمن. بعد انصراف أم حامد، جلست صافيناز وأمها تنتظران بلهفة عودة إبراهيم من عمله. وما إن دخل الباب حتى راحتا تخبرانه، دون توقف، بما حدث، وأرَتاه أيضًا الحلي الرائعة في صندوقها الفضي. فطمأن إبراهيم لهفتهما قائلاً: “أنباء طيبة، ونسب مشرف.”

لكن بعد مزيد من التفكير والتأمل، بدأت الشكوك تساور إبراهيم حول عرض الزواج هذا. فراح يقول في نفسه: “كيف تم هذا الأمر بهذه السرعة؟ هل يريدون حقًا أن يتزوج ابنهم من أسرة فقيرة كأسرتنا؟ إني أشك جدًا في ذلك.” ولم يستطع إبراهيم مقاومة ارتيابِهِ إلا أن يصارح زوجته على انفراد بذلك، فقال: “لن أفاجأ يا أم عامر إذا غير الجيران رأيهم، ولن أستغرب أن يطلبوا استعادة الجواهر عاجلاً أو آجلاً.”

تراجع العائلة الغنية

وما أسرع أن تحققت شكوك إبراهيم وحدسه. فما إن عادت زوجة عبد الله إلى البيت حتى نادت زوجها وولدها لتنبئهما بلهفة وحماس عن أخبار صافيناز. لكن الاثنان قابلا الأنباء ببرود. رد حامد قائلاً: “اتركي هذا يا أماه، ابحثي لي عن فتاة من عائلة عريقة ذات مكانة وثراء، تعرف أساليب التجارة والأعمال، فهذا أهم لدي بكثير مما تصفين!” عبثًا حاولت الأم إقناع ولدها وزوجها حتى بدراسة الفكرة. ولم تجرؤ أمام تعنتِهما أن تخبرهما بأمر الهدية الثمينة التي قدمتها إلى صافيناز. كان عليها، لتفادي غضبهما، استعادة صندوق الجواهر الذي تصرفت به دون استشارتهما، فأرسلت لذلك خادمًا إلى بيت إبراهيم في اليوم التالي.

تأثير القرار على عائلة إبراهيم

بالطبع، لم يخطر ببال عائلة إبراهيم رفض الطلب، فسلموا صندوق الجواهر إلى الخادم الذي جاء لاستعادته؛ وكان ذلك إيذانًا بأن مشروع الزواج قد أُلغي. وتغرغرت عينا صافيناز بالدمع، فحاولت الأم مواساتها قائلة: “عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم. صدق الله العظيم. إنه لمن الأفضل لكِ ألا تتزوجي رجلاً من عائلة لا تحسن التصرف.” وهز إبراهيم رأسه موافقًا.

أما عامر، أخو صافيناز، فقد كان وقع الإلغاء عليه صدمة عنيفة، فانتفخت أوداجه غضبًا وغيظًا وهو يصيح: “لا أستطيع احتمال هذا! حين أخبرت رفاقي أن صافيناز ستتزوج من حامد بن عبد الله سخروا مني ولم يصدقوني. فماذا سيكون موقفي أمامهم الآن؟ لقد جلب عبد الله العار على عائلتنا، وإني لأشعر أنه قد أذلني أنا شخصيًا. لن يكون لي بقاء في هذا البلد بعد اليوم، إني راحل مع القافلة التالية المتجهة غربًا!”

وداع عامر وعائلته

في صباح اليوم التالي، كان عامر يودع والديه وأخته، وعيون الجميع تغرورق بالدمع والأسى. لم يحمل عامر معه إلا القليل من الحوائج والزَّاد، مما يسهل حمله حين انطلق إلى خان القوافل في البلدة يستفسر عن موعد سفر القوافل. أجابه قيم الخان بلطف: “للأسف يا ولدي، لقد انطلقت القافلة المقررة لهذا الأسبوع ليلة أمس في طريقها إلى حلب، وأظنهم سيقضون يومهم في واحة حامز. لعلك لو تجُدُّ السيرَ، تلحق بهم إلى هناك قبل أن يغادروا!”

لم يتردد عامر في اتخاذ الطريق الترابي إلى واحة حامز. وكان هواء الصباح لا يزال معتدل الحرارة وهو يتجاوز ظلال أسوار المدينة. ولكن ما إن صعدت الشمس فوق الأفق حتى راحت تصب هجيرها اللافع فوق البطاح الجَفيفة والصخور الجرداء وبقايا جنبات الطرفاء النحيلة. لكن حرقة الدمع في عيني عامر أغفلته عن قطرات العرق التي كانت تتفصد من جسده. لم يكن يفكر إلا بالإذلال الذي ألحقه عبد الله به وبعائلته.

لقاء عامر بالسيد أبو لحية

من على ربوة حصباوية، لاحظ عامر عن بُعد ثُلةً من الخيَّالة تَخِبُّ نحو المدينة باتجاهه. ولم يأبه عامر لهم إذ مروا به، إلا حين توقفوا فجأة وعاد كبيرهم ليتوقف بفرسه أمامه، قائلاً بلطف: “ما بك يا غلام؟ ولماذا تغرورق الدمع عيناك؟ هل ألمَّ مصاب بالمدينة؟” كان المتحدث رجلاً ملتحياً طويل القامة، متألق العينين، تتأرجح ثيابه الحريرية الفاخرة كلما شب فرسه متوكباً يضرب الأرض بقدميه.

رد عامر: “لا يا سيدي، لم يصب المدينة أي ضرر، إنما الضر ما أصاب عائلتي من إذلال وضيم لم أستطع احتمالهما فرحلت. سأحاول اللحاق بالقافلة المتجهة إلى حلب قبل استئناف مسيرها من واحة حامز.”

قاطعه السيد الملتحي قائلاً: “ولكن يا ولدي، القافلة قابلتنا مع الفجر منطلقة من الواحة، وستكون الآن بعيدة جداً عنها. ومن المستحيل اللحاق بها.” ولاحظ السيد الأسى الذي يَعمُر وجه عامر، فتابع قائلاً: “إن تابعت سيرك في الصحراء وحيداً، فإنك هالك لا محالة. قل لي ما هو الحيف الذي حل بأهلك؟ هل هو بالغ الخطورة إلى هذا الحد؟ تعالَ سر معي وحدثني عما جرى.”

ترجل السيد عن فرسه وسار مع عامر عائدين باتجاه البحر وأسوار المدينة. وباح عامر للسيد بمكنونات صدره حول الإهانة الفاضحة التي طالت أخته البريئة صافيناز. أبدى السيد أبو لحية عطفاً متزايداً نحو عامر، وقال: “أرغب في زيارة عائلتك، وبصحبتك يا عامر، علّي أجد سبيلاً لمساعدتكم.”

السيد أبو لحية يزور عائلة عامر

فوجئ عامر بهذا العرض، فأجاب متلعثماً: “لكن، أيها السيد الماجد، نحن أناس فقراء، وأين لنا أن نهيئ لك الاستقبال الذي يليق بمقامك؟” أجاب السيد: “لا عليك! فالاستقبال الودّي البسيط أعزّ لديّ من أي حفاوة وتأهيل.” وهكذا عاد عامر إلى بيتهم، فقدّم والده -المتلهف لعودته- إلى السيد الماجد. وقضوا الأمسية في جلسة رائقة على سطح البيت يحتسون فناجين القهوة المطيبة بالهال ويتسامرون بأخبار البلاد وأحوال العباد.

وبينما السيد يغادر بيت إبراهيم مروراً بالمطبخ، وقعت عيناه على صافيناز في لمحة عابرة، فقال في نفسه: “إنها نادرة الجمال حقاً.” ودع السيد مضيفه عند الباب قائلاً: “لقد كانت هذه أمسية أبهجتني كثيراً. إن وراءي أشغالاً هنا ينبغي إتمامها، لكن قبل مغادرتي آمل أن تسمحوا لي بزيارتكم ثانيةً.” أجاب إبراهيم: “حباً وكرامة! إن ذلك سيسعدنا ويشرفنا، أيها الماجد.”

طلب يد صافيناز

كانت عودة السيد بعد عدة أيام مفاجأة للجميع. لقد كان الماجد أبو لحية يرتدي أفخر الثياب وبرفقته اثنان من الفرسان في لباسهم الرسمي. وكان بين يدي كل مرافق صندوق من الخشب الفاخر مغلق بقفل من الفولاذ الصقيل. خاطب الماجد إبراهيم قائلاً: “لقد جئت أطلب يد ابنتك يا أبا عامر، إذا هي ترضى بي زوجاً.”

طلب السيد أبو لحية يد صافيناز

ذُهل إبراهيم لهذا الطلب، وأسرع يستدعي زوجته التي لم تستوعب الموقف على الفور لفرط تأثرها. لكنها سرعان ما أعدت صافيناز لمقابلة زائرهم الكريم. كان الصندوقان مليئين بالهدايا الأسطورية الرائعة: حُليٌّ ومجوهرات من كل صنف، أكياس من القطع النقدية الذهبية والفضية، وصُرَرٌ زاخرة بالحجارة الكريمة المتألقة.

لم تكن النفائس لتجذب اهتمام صافيناز، فهي لم تعرها سوى نظرة عابرة. لقد أسر الرجل الذي جاء يخطبها قلبها من النظرة الأولى، فشعرت في قرار نفسها أنها تحب هذا الرجل. وقطع الماجد الملتحي على الجميع موجهاً كلامه إلى آل العروس: “ظروفي ستطيل فترة الخطوبة بضعة أشهر، علي أن أتمم مهماتي وواجباتي في كامل المنطقة. سأبعث إليكم في كل أسبوع مزيدًا من الهدايا، لا لتدخروا، بل لتنفقوها على حاجاتكم وتحسين أوضاعكم. عند عودتي، آمل أن تكون صافيناز قد رضيت بي زوجًا، ولست أسألكم، ولا حتى أتوقع منكم، وعودًا بذلك الآن.”

فترة الخطوبة والهدايا الأسبوعية

وبهذا الخطاب غادر الماجد أبو لحية، كما أجمع آل إبراهيم على تسميته، ليكمل سفراته. وفي كل أسبوع كان يطرق باب بيت أبي عامر خيالٌ ليسلم الصندوق الموعود بما فيه من هدايا نفيسة. ولم يمضِ طويل وقت حتى تسنّى لإبراهيم وعائلته شراء بيت فخم في الجانب الآخر من البلدة، تحيط به الحدائق الغناء والساحات المزيّنة والمبرَّدة بنوافير الماء المتدفّق. وتابعت العائلة حياة البساطة المتواضعة، كما من قبل، رغم ما أصابوا من ثراء.

كان يشغل بال صافيناز التفكير في شخصية زوج المستقبل. إنه لم يحدثهم إلا بالقليل جداً عن نفسه، وكأنه يتعمد إبقاء هويته وطبيعة عمله سراً غامضاً. كل ما توصلت إليه هو استنتاج عامر أن خطيبها لا بد أن يكون تاجراً فائق الغنى، أغنى من أي تاجر في البلدة، أغنى حتى من عبد الله نفسه.

البحث عن زوجة لحامد

في تلك الأثناء كان عبد الله وزوجته يواصلان البحث عن الزوجة المناسبة لولدهما حامد. وكان وجهاء البلدة، والتجار بخاصة، منشغلين جداً بمراسم الزيارة التي يقوم بها سلطان المنطقة. فقد كان من عادة سلطان شط العرب أن يجول أرجاء المنطقة، مدينة مدينة، يبحث مع قادتها ورؤساء دواوين الشرطة فيها شؤون الناس وشكاواهم وأحوالهم. وتتميز هذه الزيارات عادة بالمآدب الفخمة العامرة التي يتنافس التجار والوجهاء فيها تعبيراً عن أرباحيتهم وإكرامهم لسمو السلطان.

وقد أتاحت هذه الأيام الحافلة بالنشاطات الاجتماعية الفرصة أمام أم حامد لمقابلة مزيد من وجهاء البلدة وبناتهم، وتم لها أخيرًا إيجاد الفتاة التي تتوافر فيها مواصفات ولدها حامد وزوجها عبد الله. بحثت أم حامد زوجها وولدها في أمر الفتاة، فوصفتها بأنها لا بأس بجمالها وأنها حادة المزاج نوعاً ما، ولعلها في عمر حامد أو تكبره قليلاً، لكنها من بيت بالغ الثراء والوجاهة. ولم يشأ عبد الله إضاعة مزيد من الوقت، فتقدم في اليوم التالي لخطبتها من أهلها الذين لم يترددوا في القبول.

التحضير لحفل زفاف حامد

تحدد موعد الزفاف، وأراده أبو حامد احتفالاً لم تشهد له المدينة مثيلاً في زمانها. جرى توزيع الدعوات للحفلة، ولم تكن أم حامد لتنسى دعوة إبراهيم وعائلته، ولو أنها لم تتصل بهم أو تسمع شيئًا عنهم منذ حادثة الجواهر المحرجة. حمل الخادم الدعوة إلى بيت إبراهيم القديم، فأخبره أحد الجيران أنهم غادروا الحي، وتكرم بإرشاده إلى مقر إقامة العائلة الجديد.

زيارة عبد الله لعائلة إبراهيم

طمأن الخادم سيدته إلى أنه قد أوصل الدعوة إلى أصحابها، ولكن ليس في بيتهم القديم، بل في منزل فخم في الحي الآخر من المدينة. ودفعت هذه الأخبار أم حامد إلى إرسال خادم آخر للتأكد من النبأ ولتقَصّي مزيد من أخبار إبراهيم وعائلته. عاد الخادم بتقرير وافٍ جذب اهتمام كل أفراد العائلة، حيث قال: “أخبرني الجيران أن عائلة إبراهيم انتقلت إلى ذلك المنزل منذ شهر. يبدو أنهم على قدر عظيم من الثراء؛ فهم كرماء، طيبون جدًا، ويستقبلون من يزورهم بكل ود وترحاب.”

راح أفراد العائلة يتساءلون: “كيف حدث هذا يا ترى؟” وبنبرة مليئة بالتساؤل، تمتم عبد الله قائلاً: “واضح أننا أهملنا صديقنا القديم إبراهيم؛ لقد آن الأوان كي أزوره.” وفي بعد ظهر اليوم نفسه، كان عبد الله ضيفًا في منزل صديقه القديم، الذي استقبله ببالغ الحفاوة والتكريم. لقد بُهِت عبد الله بما رأى، وأخذ يحدث نفسه بأن من يملك مثل هذا البيت القصر لا بد أن يكون في مثل ثرائه أو أكثر. تلاحقت التساؤلات في رأسه عن مصدر هذا الثراء. ولم يقطع عليه ذهوله وتساؤلاته إلا طلة صافيناز، التي قدمت له القهوة والبقسماط. وكان ذهوله بها أعظم، وقال هاجس في نفسه: “إنها حقًا جمال يعزّ نظيره.”

خطوبة صافيناز

عند انصراف صافيناز، قال عبد الله بشيء من الارتباك: “يا تبارك الله! هل خُطِبت كريمتكم يا إبراهيم، أم بعد؟” أجاب إبراهيم: “لقد أسعدنا الله بسيد ماجد تقدم لخطبتها، إنه خير زوج تحلم به أي فتاة.” ثم حول إبراهيم دفة الحديث قائلاً: “إن ابنكم حامدًا مقبل أيضًا على الزواج، وهذا نبأ أسعدنا. والواقع أننا قد أعددنا له هدية زفاف، ويسعدنا أن نكلفك بحملها إليه.” عاد عبد الله بالهدية إلى ولده، والتساؤلات تراود خاطره. وعندما فتح حامد الهدية في البيت، وجد طقم سفرة رائع من الفضة الخالصة، أبهر ما يمكن أن يُشترى بمال.

لم يُخفِ عبد الله مشاعره، وفاجأ ولده قائلاً: “لقد ارتكبنا خطأ فادحًا، صافيناز، ابنة إبراهيم، هي الفتاة المناسبة لك الآن! يجب أن نلغي ترتيبات زفافك الموعود فورًا.”

إلغاء زفاف حامد

انتشر نبأ إلغاء زفاف حامد بن عبد الله بعد أن أوشكت الاستعدادات له على الانتهاء، وسط دهشة وجهاء البلدة وتساؤلاتهم. لم يمض وقت طويل حتى قصد عبد الله بيت إبراهيم ليخطب ابنته صافيناز لابنه حامد، متجاهلاً ما مضى، زاعمًا أن هذا الزواج الميمون سيوحد العائلتين ويعيد صداقة الماضي – صداقة أيام الصبا.

ابتسم إبراهيم وهو يرد على صديقه قائلاً: “كم يشرفني هذا العرض، لكن صافيناز مخطوبة، ونحن قبلنا الخطوبة وباركناها.” قاطعه عبد الله قائلاً: “ولكن باستطاعتك أن تغير ذلك بالتأكيد.” رد إبراهيم ببرود: “للأسف يا صديقي، لن نفعل ذلك، فنحن لم نتعود أن نجحد الفضل ولا أن ننكث الوعد.” وراح يروي له قصة السيد الماجد الملتحي، صهر المستقبل.

الخلاف بين العائلتين ورفع القضية إلى السلطان

كانت الأنباء التي عاد بها عبد الله مخيبة لآمال العائلة، وبخاصة أم حامد التي صرحت غاضبة: “ومن يكون هذا السيد أبو لحية؟ لا أظنه إلا ساحرًا أو جنّيًا متقمصًا! لماذا لم تذكرهم بأنهم سبق وقبلوا خطبتنا؟ نعم، نحن غيرنا رأينا، لكن الوعد يبقى وعدًا! يجب أن يفهموا ذلك!” وعلى الأثر، دب الخلاف بين العائلتين. وتمسك عبد الله بما ادعته امرأته من أن صافيناز كانت قد قبلت خطوبة حامد، وراح يُشيع في المدينة أن صافيناز قد أُخذت بسحر ساحر أفسد العائلة بهداياه الفاتنة. وصرح بأنه سينتهز فرصة زيارة السلطان المنتظرة ليعرض القضية عليه.

استجواب السلطان وصافيناز

جلس السلطان يستمع إلى شكوى عبد الله بجدية ووقار، وبعد استعراض الشكوى قال: “العدل يقتضي أن نسمع أقوال الفتاة نفسها.” استدعيت صافيناز إلى حضرة السلطان بصحبة والدها، وجرى استجوابها من وراء حجاب، كما جرت العادة. بدأ السلطان قائلاً: “أيتها الفتاة، عليك أن تردي على تهمتين موجهتين إليك. أولاً، أنت متهمة بنكث وعد الزواج من حامد بن عبد الله. بماذا تردين؟”

فردت صافيناز قائلة: “لا يا سيدي، لم يصدر عني مثل هذا الوعد. كل ما في الأمر أنني وعدت بدراسة عرض الزواج الذي أرفقته السيدة حامد بعربون من الحلي. لكنها طلبت استعادة الحلي في اليوم التالي، فأعدتها، وطبعاً لم يعد لي ما أدرسه!”

التفت السلطان إلى عبد الله ليستفسره، فأجاب هذا متلعثمًا ومرتبكًا: “إن زوجتي لم تُشر إلى موضوع الحلي مطلقًا. لقد كتمت ذلك عني.” قال السلطان: “ردك يا فتاة أسقط التهمة الأولى. فما قولك في الثانية؟ أنت متهمة بمشروع زواج من ساحر يلفه الغموض، هيا صفي لنا هذا الرجل الغامض.”

اكتشاف هوية الخطيب الغامض

ردت صافيناز: “إنه رجل حسن الطلعة كأبهى الرجال، طويل، قوي، حلو الشمائل، طيب النفس.” قاطعها السلطان مضيفًا: “ولكن هل هو رجل عادي؟ صفي لنا مظهره. صفي لي يديه مثلاً، هل هما كيَدَيَّ أو مختلفتان؟” ومع سؤاله ذاك، مد السلطان يديه لترى صافيناز من وراء سترها.

ردت صافيناز: “إن يديك شبيهتان بيديه يا مولاي.” أردف السلطان: “وصوته؟ هل هو مثيل لصوتي أو مباين له؟” أجابت الفتاة: “بل إن صوته مثيل لصوتك، كأنه هو.” تابع السلطان: “ووجهه؟ هل هو شبيه بوجهي؟” وعند هذا السؤال، وقف السلطان كي يتسنى لصافيناز رؤية وجهه. هنا، هتفت صافيناز بصوت متهدج: “إنه أنت، إنه أنت يا مولاي السلطان!”

خاتمة القصة وزواج السلطان

غصت القاعة بشهقات التعجب وتكبير الحاضرين. وحين هدأت موجة الاستغراب، التفت السلطان نحو عبد الله قائلاً: “أعتقد أن القضية حُسمت لصالح المتهمة، إلا إذا كنت يا عبد الله تظنني ساحرًا!” ثم التفت السلطان إلى إبراهيم متابعًا كلامه: “وأنت يا إبراهيم، نترك لك حرية اختيار الحكم الذي يقوّم ما أنزله عبد الله بعائلتك من ضرر، عقوبة أو غرامة.”

تطلع إبراهيم نحو عبد الله، الذي كان يطرق عينيه خجلاً، ثم نحو السلطان قائلاً: “لا أطلب لعبد الله عقوبة ولا منه غرامة؛ وأرى أنه قد عانى ما فيه الكفاية.” قاطعه السلطان قائلاً: “في هذه الحال، أعتبر القضية منتهية. هيا أقيموا الزينات وادعوا أهل المدينة إلى وليمة، ليحتفلوا بزفاف السلطان!”

معرض الصور (قصة الماجد أبو لحية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى