في مشاهد الإسراء والمعراج عبرة وموعظة لجميع الناس: للمؤمنين والكافرين، للطائعين والعاصين. المؤمنون والطائعون يرون ما ينتظرهم من السعادة والهناء، فيزدادون إيمانًا وطاعة لله تعالى. والكافرون والعاصون يرون ما ينتظرهم من العذاب والشقاء، فيكفون عن كفرهم وعصيانهم لله تعالى إن كان لهم عقول يفكرون بها، وقلوب يفقهون بها، وإن كانوا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، ويفكرون في مستقبلهم.
وقد قص النبي لما رآه في رحلة الإسراء والمعراج على أصحابه فقال لهم ما معناه: كنت مضطجعًا في حجر إسماعيل بين النائم واليقظان – وفي رواية: في بيت أم هانئ بنت أبي طالب، أي بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم – إذ أتاني جبريل وميكائيل، فأخذاني إلى بئر زمزم، وكان معهما طست من ذهب، فشقا صدري، وغسلا قلبي بماء زمزم ثلاث مرات، ثم ملآه علمًا وحلمًا، وإيمانًا ويقينًا، وإسلامًا وأغلقاه بعد أن ختماه. ثم أتاني جبريل بالبراق، وهو دابة بيضاء أصغر من البغل وأكبر من الحمار، سريع كالصاروخ أو أكثر فركبته وسرنا باتجاه المسجد الأقصى في فلسطين.
مشاهد العقاب والجزاء في طريق الإسراء
وفي الطريق إلى هناك، كشف الله له الحجاب عن بعض مشاهد المؤمنين والكافرين والعاصين؛ ليقص ذلك على أمته، وليكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم من الأمم. قال:
شاهدت قومًا يزرعون في يوم، ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان. فقلت: يا جبريل ما هذا؟
قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تعالى، تضاعف لهم الحسنة بسبعمئة ضعف (بينما هي لغيرهم بعشر أمثالها فقط).
ثم شاهدت قومًا تضرب رؤوسهم بالحجارة؛ كلما ضربت عادت كما كانت فتضرب من جديد. فقلت: ما هؤلاء يا جبريل؟
قال: هؤلاء الذين يتكاسلون عن الصلاة.
ثم شاهدت قومًا عراة، على عوراتهم من الأمام ومن الخلف أوراق تسترها، وهم يرعون كما ترعى الإبل والغنم ويأكلون الشوك والحجارة الساخنة الحارة. فقلت ما هؤلاء يا جبريل؟
قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم.
ثم شاهدت قومًا أمامهم لحم مطبوخ، ولحم آخر نيء قذر خبيث، فكانوا يأكلون من اللحم النيء الخبيث القذر، ويدعون اللحم الطيب المطبوخ. فقلت: ما هؤلاء يا جبريل؟
قال: هؤلاء من أمتك يكون عند الواحد منهم الزوجة الطيبة الحلال فيدعها ويأتي المرأة الخبيثة الحرام، والمرأة تدع زوجها الطيب الحلال، وتأتي الرجل الخبيث الحرام.
ثم شاهدت خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته، ولا شيء إلا مزقته. فقلت: ما هذا يا جبريل؟
قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق، فيفسدون، ويقطعون الطريق، وينهبون الأموال.
ثم شاهدت رجلًا قد جمع حزمة عظيمة من الحطب ويريد أن يحملها فلا يستطيع. قلت: ما هذا يا جبريل؟
قال: هذا الرجل من أمتك يكون عنده أمانات للناس، ولا يؤديها لهم.
ثم رأيت أقوامًا تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقصات من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت، فتقرض من جديد، وهكذا. فقلت: ما هذا يا جبريل؟
قال: هؤلاء خطباء الفتنة، يقولون ما لا يفعلون؛ يأمرون الناس بالمعروف ولا يفعلونه، وينهونهم عن المنكر ويفعلونه.
ثم شاهدت جحرًا صغيرًا في الأرض، خرج منه ثور عظيم الجسم، ثم أراد هذا الثور أن يدخل في الجحر الذي خرج منه فلم يستطع. فقلت: ما هذا يا جبريل؟
فقال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها، يريد أن يردها إلى حيث كانت من عقله فلا يستطيع، فالخارج لا يعود، لذلك على المرء أن يفكر كثيرًا قبل أن يتكلم.
الجنة والنار ودعاة الضلالة
ثم مررنا بواد فيه ريح طيبة باردة ورائحة مسك، وسمعت منه صوتًا حسنًا. فقلت: يا جبريل ما هذا؟
فقال: هذه ريح الجنة ورائحتها، وهذا صوتها تقول لربها: يا رب، آتني ما وعدتني، فقد كثرت قصوري وغرفي وجواهري وأنهاري، فأتني ما وعدتني.
فقال لها ربها: لك كل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة من آمن بي وبرسلي وعمل صالحًا، ولم يشرك بي شيئًا، ومن خافني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن توكل علي كفيته.
ثم مررنا على واد وجدت فيه ريحًا خبيثة منتنة، وسمعت منه أصواتًا منكرة. فقلت: ما هذا يا جبريل؟
قال: هذه جهنم، وهذه ريحها ورائحتها، وهذا صوتها تقول: يا رب، آتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي، وعقاربي وحياتي، وعظمت ناري، فأتني ما وعدتني.
فقال لها ربها: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة، وعاص وعاصية، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب.
ثم سرنا، فإذا برجل عن يميني يقول: يا محمد! انظرني أريد أن أسألك، انظرني أريد أن أسألك.
فلم ألتفت إليه.
ثم رأيت رجلًا آخر عن يساري يقول: يا محمد انظرني أريد أن أسألك، انظرني أريد أن أسألك.
فلم ألتفت إليه أيضًا، وبعد أن جاوزناهما، قلت: يا جبريل من هذان الرجلان؟
قال: الرجل الأول داعي اليهود، ولو التفت إليه لتهودت أمتك. والرجل الثاني داعي النصارى، ولو التفت إليه لتنصرت أمتك.
ثم سرنا فإذا بامرأة جميلة حاسرة عن ذراعيها، عليها من كل زينة خلقها الله تعالى، فلما رأتني صارت تقول: يا محمد! انظر إلي، يا محمد انظر إلي.
فلم ألتفت إليها.
فلما جاوزناها قلت: يا جبريل من هذه؟
قال: هذه الدنيا، ولو التفت إليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
لقاء الأنبياء وصعود المعراج
قال: ثم سرنا حتى أتينا بيت المقدس، فنزلت عن البراق، وتقدم جبريل فثقب الصخرة بإصبعه، وربط بها البراق، ثم صليت أنا وجبريل ركعتين. وبعد الصلاة لقيت أرواح الأنبياء في بيت المقدس. فأثنوا على ربهم وحمدوه، فقال إبراهيم: الحمد لله الذي اتخذني خليلًا، وأنقذني من النار. وقال موسى: الحمد لله الذي كلمني، وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي. وقال داود: الحمد لله الذي جعل لي ملكًا عظيمًا، وألان لي الحديد، وسخر لي الجبال والطير. وقال سليمان: الحمد لله الذي سخر لي الرياح والشياطين يعملون لي ما شئت من تماثيل وقدور وقصور، وعلمني لغة الحيوانات وأتاني ملكًا عظيمًا. وقال عيسى: الحمد لله الذي خلقني بكلمته، وعلمني الحكمة والتوراة والإنجيل وجعلني أبرئ الأبرص والأعمى، وأحيي الموتى بإذنه.
فقلت أنا – أي النبي صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، بشيرًا ونذيرًا، وأنزل علي القرآن وجعل أمتي خير الأمم.
عند ذلك قدم لي جبريل إناء فيه ماء فشربت منه قليلًا، ثم قدم إناء آخر فيه لبن (حليب)، فشربت منه حتى رويت.
فقال لي جبريل: لقد اخترت الفطرة – لأن اللبن (الحليب) يوافق فطرة الإنسان، ويلائم صحته – ثم قدم لي إناء آخر فيه خمر، فقلت: لا أريده.
فقال جبريل لي: إنها حرام على أمتك، ولو شربت منها لضلت أمتك.
زيارة السماوات السبع
ثم نصب المعراج، فصعدت عليه أنا وجبريل، حتى بلغنا السماء الدنيا، فطلب جبريل فتح بابها، ففتح ودخلنا، فإذا بأبينا آدم جالس وعن يمينه باب تأتي منه ريح طيبة، وعن شماله باب تأتي منه ريح خبيثة، فإذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن. فسألت جبريل عن ذلك، فقال: الباب الذي عن يمينه باب الجنة؛ فإذا نظر إلى من يدخل الجنة من ذريته ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم؛ فإذا نظر إلى من يدخله من ذريته؛ بكى وحزن.
ثم صعدنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، ففتحت، فدخلنا فوجدنا ابني الخالة يحيى بن زكريا وعيسى، وهو مربوع؛ لونه إلى الحمرة والبياض، جعد الشعر حديد البصر؛ يشبه عروة بن مسعود الثقفي.
ثم صعدنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، ففتحت، فدخلنا؛ فإذا بأخي يوسف، وقد أعطي الحسن والجمال؛ فهو كالقمر ليلة البدر.
ثم صعدنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، ففتحت، فدخلنا، فإذا بإدريس قد رفعه الله تعالى مكانًا عليًا، فرحب بي، ودعا لي بخير، وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح.
ثم صعدنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، ففتحت، فدخلنا، فإذا بهارون جالس، وحوله قوم من بني إسرائيل يقص عليهم ويحكي لهم، وهو محبوب عندهم.
ثم صعدنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، ففتحت، فدخلنا، فإذا بموسى يبكي!
فقلت لجبريل: ما يبكيه؟
قال: يرى أمتك أكثر من أمته وخيرًا منها، وموسى لأنه سلام أسمر، طويل، سبط الشعر، يصل شعر رأسه إلى أذنيه.
إبراهيم عليه السلام والمؤمنون التائبون
ثم صعدنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، ففتحت، فدخلنا، فإذا بإبراهيم جالس عند باب البيت المعمور، وهو أشبه الناس بي وعنده قوم جلوس بيض الوجوه، وقوم آخرون قد خالط بياض وجوههم السواد، وإلى جانبهم نهر قاموا فاغتسلوا فيه فخف السواد من وجوههم، ثم دخلوا نهرًا آخر فاغتسلوا فيه فخف سواد وجوههم أيضًا، ثم دخلوا نهرًا ثالثًا فاغتسلوا فيه فزال سواد وجوههم، وأصبحوا بيض الوجوه مثل رفاقهم، فجاؤوا فجلسوا فقلت: ما هؤلاء يا جبريل؟
قال: هؤلاء البيض الوجوه؛ قوم مؤمنون لم يرتكبوا في حياتهم إثمًا، ولم يظلموا أحدًا. أما الذين خالط بياض وجوههم السواد، فقد خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، ولكنهم تابوا فتاب الله تعالى عليهم. أما الأنهار الثلاثة فالنهر الأول: رحمة الله تعالى، والنهر الثاني: نعمة الله تعالى، والنهر الثالث: سقاهم ربهم منه شرابًا طهورًا.
ثم قال لي جبريل: سلم على أبيك إبراهيم.
فسلمت عليه، فدعا لي بخير. ثم قال قائل: يا محمد هذا مالك خازن جهنم. فالتفت إليه، فبدأني بالسلام، فرددت عليه السلام، وهو لم يضحك في حياته قط.
مشاهد عقاب بعض العصاة في الإسراء
ثم نظرت فرأيت قومًا يأكلون الجيف، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟
قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس يغتابونهم، فكأنما هم يأكلون لحومهم بعد موتهم.
ثم رأيت أقوامًا أفواههم كأفواه الإبل يفتحونها ويتناولون بها لحمًا منتنًا، فيخرج من أسافلهم، فيضجون إلى الله، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟
قال: هؤلاء من أمتك الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا، إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا.
ثم رأيت نساء قد تعلقن بأثدائهن وهن يصرخن ويستغثن. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟
قال: هؤلاء الزناة من أمتك اللائي يرتكبن الفواحش.
ثم رأيت أقوامًا بطونهم منتفخة فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، كلما أراد أحدهم أن ينهض وقع، فيجيء الناس ويدوسونهم بأقدامهم فيصرخون ويستغيثون. فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟
قال: هؤلاء من أمتك الذي يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.
ثم رأيت أقوامًا يقطع اللحم من جنوبهم ويوضع في أفواههم، ويقال لهم: كلوا من لحمكم كما كنتم تأكلون من لحوم إخوانكم. فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟
قال: هؤلاء الهمازون من أمتك الذين يسعون بين الناس بالفساد.
ثم نظرت فإذا رعد وبرق وصواعق ونظرت أسفل مني فإذا بدخان وأصوات. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟
قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم.
سدرة المنتهى والجنة والنار
ثم صليت في البيت المعمور في السماء السابعة، وهو فوق الكعبة المشرفة، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام مستندًا بظهره إليه. ويطوف بالبيت المعمور كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، وهي شجرة نبق في نهاية السماء السابعة عن يمين العرش، إليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه أحد إلا الله، ويخرج من أصلها أنهار من ماء صاف، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من عسل مصفى، وأنهار من خمر لذة للشاربين. ومن أنهار سدرة المنتهى نهر الكوثر ونهر الرحمة، وقد اغتسلت في نهر الرحمة، فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر.
ويسير الراكب في ظل سدرة المنتهى سبعين سنة لا يقطعها؛ ثمارها كقلال هجر، وورقها كآذان الفيلة – أي: كبير جدًا – إذا غشيها من نور الله كل ما غشي تغيرت؛ فما أحد من خلق الله تعالى يستطيع أن يصفها من حسنها، ولو وضعت ورقة من أوراقها في الأرض لأضاءت أهل الأرض.
واطلعت هناك على الجنة فإذا بالأنهار تجري فيها من كل نوع: أنهار من ماء، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من عسل مصفى، وأنهار من خمر لذة للشاربين. وإذا برمانها وثمارها كالدلاء عظمًا، وإذا بطيرها كالجمال. وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ثم اطلعت على النار؛ فإذا فيها غضب الله تعالى ونقمته؛ لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها. ثم أغلقت دوني.
حوار مع الخالق ولقاء مع موسى عليه السلام
ورأيت هناك جبريل على صورته الحقيقية؛ وله ستمئة جناح. ورأيت رفرفًا أخضر قد سد الأفق. ووصلت إلى منزلة سمعت فيها صوت الأقلام، أقلام القدر بما هو كائن إلى يوم القيامة. وهناك فارقني جبريل وقال: هذه حدودي، ولو تقدمت خطوة أكثر من ذلك لاحترقت، لأن علم الخلائق – بما فيهم الملائكة – ينتهي عند سدرة المنتهى.
فقلت: أتتركني وحدي يا أخي يا جبريل؟
قال: هذه حدودي، لا أستطيع تجاوزها؛ فشأنك أنت وربك.
وسرت في النور، وكلمني ربي فقال: سل يا محمد.
فقلت: لقد اتخذت إبراهيم خليلًا، وكلمت موسى تكليمًا، وأعطيت داود ملكًا عظيمًا، وألنت له الحديد وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكًا عظيمًا، وسخرت له الإنس والجن والشياطين والرياح وعلمته منطق الحيوان، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأعمى والأبرص، ويحيي الموتى بإذنك، وحفظته وأمه من الشيطان الرجيم.
فقال الله: وقد اتخذتك حبيبًا وخليلًا، وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وشرحت لك صدرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أُذكر إلا وذكرتَ معي، وجعلت أمتك خير الأمم، وأعطيتك سبعًا من المثاني. أي: سورة الفاتحة – وخواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، وأعطيتك نهر الكوثر.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فضلني ربي بست: أعطاني فواتح الكلام وخواتمه وجوامع الحديث، وأرسلني إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وقذف في قلوب أعدائي الرعب من مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض كلها مسجدًا وطهورًا.
تخفيف الصلاة وعودة النبي صلى الله عليه وسلم
ثم فرض ربي علي وعلى أمتي خمسين صلاة في اليوم والليلة. وعندما مررت بموسى في عودتي قال: ما فرض عليك ربك؟
قلت: خمسين صلاة في اليوم والليلة.
فقال: ارجع إلى ربك واسأله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك.
فرجعت إلى ربي فوضع منها عشرًا، وما زلت أذهب وأعود بين ربي وبين موسى حتى أصبحت الخمسون صلاة خمس صلوات.
وقال الله: خمس صلوات بخمسين صلاة، وكل حسنة بعشر أمثالها.
فقال لي موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فقد بلوت بني إسرائيل فوجدتهم لا يطيقون.
فقلت له: لقد استحييت من ربي، ورضيت بأن تكون كل حسنة بعشر أمثالها.
وبعد ذلك هبطت أنا وجبريل إلى بيت المقدس وهبط معنا الأنبياء كلهم، وحانت صلاة الصبح، فقدمني جبريل فصليت إمامًا بهم إظهارًا لشرفي وفضلي عليهم صلوات الله وسلامه عليهم، ثم خرجت من بيت المقدس، وركبت البراق، وعدت إلى مكة المكرمة، وفي طريقي إلى مكة المكرمة مررت بقافلة لقريش وقد هرب منهم بعير، فهم يطلبونه، كما انكسرت لهم ناقة حمراء. وفي مقدمة القافلة جمل أسمر (أورق).
وعندما حدثت قريشًا بحديث الإسراء والمعراج كذبوني؛ فذكرت لهم ما شاهدته في قافلتهم، وأخبرتهم أنها ستصل إليهم في هذا اليوم، فكان كما ذكرت، وسألوهم عن البعير الذي هرب وعن الناقة التي انكسرت، فكان كما ذكرت لهم.
تأكيد رحلة الإسراء والمعراج
وعندما أرسل النبي رسالته إلى هرقل قيصر الروم مع دحية الكلبي، وكان قيصر في الشام؛ طلب أحدًا من قريش ليسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأتوه بأبي سفيان، فسأله: هل كان يكذب عليكم؟
فقال أبو سفيان: لا، ولكنه زعم مرة أنه خرج من أرضنا ليلًا، فأتى مسجدكم هذا في بيت المقدس، فصلى فيه، ثم عاد في الليلة نفسها قبل الصباح.
وكان بطريق القدس واقفًا عند رأس قيصر، فسأل أبا سفيان: متى كانت هذه الليلة؟
فقال له: يزعم أنها ليلة السابع والعشرين من رجب قبل هجرته إلى يثرب بسنة، أي: توافق سنة (٦٢١م).
فقال البطريق: كنت لا أنام كل ليلة، حتى أغلق أبواب بيت المقدس كلها بيدي، وفي الليلة التي ذكرها هذا الرجل استعصى علي أحد الأبواب فلم أستطع إغلاقه، واستعنت بالنجارين فلم يستطيعوا إغلاقه، فتركناه مفتوحًا، وفي الصباح وجدت الحجر الذي في زاوية المسجد مثقوبًا، وعلى الأرض أثر دابة ربطت هناك، فصاحبك صادق إذن.
الدروس المستفادة من الرحلة
وهكذا نرى أن في مشاهد الإسراء والمعراج عبرة أي عبرة لمن كان فيه ذرة من العقل والفهم، فقد قيل: العاقل من اتعظ بغيره، والجاهل من اتعظ بنفسه أو اتعظ به غيره. والعاقل من يحتاط للأمر قبل وقوعه لا بعد وقوعه.
وقد قص علينا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهد الإسراء والمعراج هذه لنتعظ بها، لكي نرى ما ينتظر المتقين في الجنة من النعيم فنكون منهم، ولكي نرى ما ينتظر الكافرين والعاصين من العذاب والشقاء، فنبتعد عن طريقهم وسلوكهم.
قص علينا كيف يزرع المجاهدون في سبيل الله تعالى ويحصدون في يوم واحد، وكيف تضاعف حسناتهم إلى سبعمئة ضعف لكي نكون منهم، وقص علينا كيف تضرب رؤوس المتكاسلين عن الصلاة بالحجارة؛ لكي لا نتكاسل عنها، وقص علينا قصة الذين لا يدفعون الزكاة كيف يعيشون عراة يرعون كالبهائم، ويأكلون الشوك والحجارة المحماة؛ لكي نسارع إلى دفع الزكاة، وقص علينا قصة الزناة الذين يدعون اللحم الطيب، ويأكلون اللحم الخبيث المنتن والنساء اللواتي يعلقن من أثدائهن، لكي لا نكون منهم.
وقص علينا قصة الذي لا يؤدي الأمانات إلى أهلها؛ كيف يجمع الحزمة الكبيرة من الحطب، ثم لا يستطيع حملها؛ لكي نسارع إلى أداء الأمانات إلى أهلها، وقص علينا قصة الذين يأمرون بالمعروف ولا يفعلونه، وينهون عن المنكر ويفعلونه؛ كيف تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقارض الحديد؛ لكي لا نكون منهم، وقص علينا قصة الذين يغتابون الناس؛ كيف يأكلون الجيف المنتنة؛ لكي نبتعد عن الغيبة، وقصة الهمازين الذين يسعون بين الناس بالفساد؛ كيف يقطع لحمهم من جنوبهم ويوضع في أفواههم؛ لكي يأكلوه، لكي لا نكون منهم.
وقص علينا قصة آكلي الربا؛ كيف تنتفخ بطونهم وتمتلئ بالحيات، ولا يستطيعون القيام، فيقومون ويقعون ويدوسهم الناس بأقدامهم؛ لكي نعتبر ونتعظ ولا نفعل فعلهم؛ لئلا يكون مصيرنا كمصيرهم. ثم ذكر لنا: أن الذين يتوبون يتوب الله عليهم، على أن ينووا ألا يعودوا إلى ما فعلوه فيغسلهم الله تعالى في نهر رحمته ونهر نعمته، فتبيض وجوههم بعد اسودادها، إن في ذلك لعبرة لأولي العقول والألباب. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.