إن من أنعم الله سبحانه وتعالى عليه بالمال والأولاد؛ عليه أن يشكر الله على ذلك؛ لكي تدوم النعم وتزداد ولا يكون الشكر بالكلام فقط، بل بالفعل أيضا بأن يواسي الفقراء، ويتصدق على المساكين والمحتاجين، ويعفو عن المسيئين إذا تابوا. وإذا لم يفعل ذلك؛ فإن الله يسلب النعمة منه، ثم يعذبه كما حدث لقارون.
كان قارون من قوم موسى، فهو قارون بن يصهر بن قاهث ابن لاوي بن يعقوب، أي هو ابن عم موسى عليه السلام، لأن يصهر والد قارون هو أخو عمران والد موسى. وكان قارون حسن الوجه، جميل الصوت، عالما بالكيمياء، حسن التدبير في التجارة والزراعة. لذلك جعله فرعون جابيا يجبي له الضرائب من بني إسرائيل، فكان يظلمهم ويبغي عليهم، وجمع من ذلك أموالا كثيرة.
عندما خرج موسى وبنو إسرائيل من مصر إلى صحراء سيناء، حمل قارون أمواله الكثيرة وخرج معهم، وصار يشتغل بالتجارة والزراعة فازدادت أمواله كثيرا، حتى صارت مفاتيح خزائنه التي يضع فيها أمواله كثيرة جدا لا يستطيع حملها إلا العصبة من الرجال. أما خزائن أمواله فكانت تحتاج إلى ٤٠ بل إلى ٦٠ بغلا لكي تحملها.
غرور قارون وادعاؤه للنبوة
ونزلت التوراة على سيدنا موسى في سيناء، وكان قارون ذكيا، وصوته جميلا، لذلك حفظ التوراة كلها، وصار يقرؤها على بني إسرائيل بصوته الجميل، وصاروا يجتمعون حوله كل يوم ليستمعوا إلى صوته الجميل. فأصابه الغرور، وقال لنفسه: “أنا أغنى رجل في بني إسرائيل، عندي المال والذهب والمواشي والزراعة والتجارة والعبيد والجواري وأحفظ التوراة كلها، وأقرؤها على بني إسرائيل بصوتي الجميل. فلماذا لا أكون نبيا مثل موسى وهارون؟”
وصار يضايق موسى عليه السلام ويؤذيه بالكلام، ويغتابه أمام بني إسرائيل. ثم قال لموسى: “لماذا استوليت أنت وأخوك هارون على كل أمور النبوة ولم تتركوا لي شيئا منها؟!”
فقال له موسى: “هذا شيء ليس بيدي، وإنما هو أمر من الله.”
وعندما يئس قارون من النبوة، كفر وأصبح منافقا، يظهر الإيمان ويضمر الكفر والعياذ بالله تعالى. وازداد غروره، فكان لا يساعد الفقراء والمساكين وجعل لبيته بابا من الذهب، ووضع على جدران بيته صفائح من الذهب.
وخرج مرة على بني إسرائيل في يوم السبت، راكبا على بغلة شهباء، سرجها من الذهب، وعليه ثياب صفر وحمر محلاة بالأرجوان، ومتزينا بالذهب والجواهر، وعن يمينه ثلاثمئة غلام وعن يساره ثلاثمئة جارية على البغال الشهب وخلفه أربعة آلاف من الخدم دوابهم محلاة بالأرجوان.
نصيحة الأتقياء ورفض قارون
فانبهر الضعفاء من بني إسرائيل بهذا المنظر، وقالوا: “يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، إنه لذو حظ عظيم.”
فقال لهم الأتقياء من بني إسرائيل: “ويلكم إن طاعة الله وثوابه خير من هذا كله، فهذا المال كله زائل لا سيما إذا نتج عن الظلم، أما ثواب الله تعالى فباق ودائم.”
وقال هؤلاء الأتقياء لقارون: “من الأفضل لك أن تبتغي في هذا المال طاعة الله تعالى والدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأن تحسن إلى الفقراء والمحتاجين، فالمال مال الله تعالى.”
فأجابهم بكل غرور: “هذا المال نلته بعلمي وحسن إدارتي وتدبيري ولن أعطي منه شيئا لأحد أبدا.”
ثم أمر الله موسى أن يأخذ الزكاة من أغنياء بني إسرائيل ليوزعها على فقرائهم، فطلب سيدنا موسى من قارون أن يدفع زكاة ماله، فقال له: “أنا عندي أموال كثيرة زكاتها تبلغ مقدارا كبيرا، فكيف أدفع هذا المقدار الكبير؟!”
فقال له موسى: “أنا أرضى منك أن تدفع من كل ألف دينار دينارا واحدا، ومن كل ألف درهم درهما واحدا؛ فهل هذا كثير؟!”
فذهب قارون وحسب المبلغ الذي عليه أن يدفعه، فوجده مبلغا كبيرا، لم تسمح نفسه الشحيحة به، فأبى أن يدفع، وأراد أن يشوه سمعة سيدنا موسى أمام بني إسرائيل، فصار يقول لهم: “إن موسى يريد أن يأخذ الزكاة لنفسه، يريد أن يأخذ أموالكم لنفسه.”
ثم ذهب إلى امرأة ساقطة من بني إسرائيل، وقال لها: “إنني سوف أعطيك ألف دينار، وألف درهم، وطستا من الذهب، إذا قلت: إن موسى يتحرش بي.”
مؤامرة فاشلة وعقاب إلهي
وفي أحد الأيام جمع سيدنا موسى بني إسرائيل وقال لهم: “إن الله أمرني أن آخذ الزكاة من أغنيائكم وأوزعها على فقرائكم، ومن سرق أن أقطع يده، ومن زنى وكان غير متزوج أن أضربه مئة عصا، وإذا كان متزوجا أن نرجمه حتى يموت.”
فقال له قارون: “وإذا فعلت أنت ذلك؛ هل تطبق العقوبة عليك؟”
قال: “نعم.”
فدعا قارون المرأة الساقطة وقال لها: “ألم يتحرش بك موسى؟”
قالت: “نعم.”
فقال لها موسى: “أسألك بالله تعالى الذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة؛ هل تحرشت بك؟”
فخافت المرأة من الله تعالى، وقالت: “لا. ولكن قارون طلب مني ذلك وقال: إنه سيعطيني ألف دينار، وألف درهم، وطستا من الذهب.”
عند ذلك غضب سيدنا موسى غضبا شديدا بسبب هذا الافتراء والكذب، ودعا الله أن يخسف بقارون وبداره الأرض، فخسف الله به وبداره الأرض حتى ابتلعتهم، وهو يصيح ويستغيث ولا من مجيب. وهذا جزاء الغرور وعصيان أمر الله تعالى.
العبرة من القصة
الغرور، هو الذي أخرج إبليس من الجنة ومن رحمة الله تعالى، لذلك لا ينبغي للمرء أن يغتر بل عليه أن يشكر الله على نعمه بالقول والفعل؛ لئلا يصيبه ما أصاب قارون. وإن لم يخسف الله تعالى به الأرض فهو قادر على الذهاب بالمال والولد وله في الآخرة عذاب عظيم.