يحكى أنه كان يعيش في بعض البلاد البعيدة ملك خبير جشع اسمه بورغ. كان ذلك الملك ذا مال وسلطان، لكنه كان محروما من الولد. وقد نغص ذلك عليه حياته. بعد سنوات عديدة حملت الملكة وأنجبت طفلة. ففرح الملك فرحا عظيما وأمر أن يحتفل الشعب كله بولادة ابنته التي أسماها كاتي. في الليلة التي ولدت فيها الطفلة كاتي، رأى الملك في نومه أن ابنته ستتزوج ابن حطاب ولد في ذلك اليوم نفسه.
هب الملك من نومه مهتاجا، وهو يصيح: «ابنتي الأميرة لن تتزوج ابن حطاب!» ثم استدعى ليلا مستشاريه وأمرهم أن يجدوا ابن الحطاب الطفل الذي ولد في ذلك اليوم ويحضرونه إليه.
البحث عن الطفل
انتشر الرجال في أنحاء المملكة يبحثون عن ابن الحطاب الطفل. وبعد أيام وصلوا في بحثهم إلى كوخ صغير في إحدى الغابات. وهناك وجدوا طفلا ولد في اليوم الذي ولدت فيه ابنة الملك، فقدروا أنه الطفل المطلوب. كان الحطاب وزوجته في هذه الأثناء يحتطبان في موضع قريب من الغابة، فأسرع الرجال يرفعون الطفل من فراشه ويحملونه إلى الملك. تأمل الملك الطفل فرأى في عنقه علامة صغيرة مميزة أشبه بهلال دقيق. ثم التفت إلى لفائفه البالية، وقال: «كيف أسمح لهذا الطفل التعيس أن يكون في المستقبل زوجا لابنتي؟» وأمر أحد رجاله أن يأخذ الطفل ويقتله.
لم يقتل الرجل الطفل، بل حمله إلى بيته واعتنى به أياما. ثم خشي أن يعرف الملك الحقيقة، فصنع صندوقا خشبيا ذا ثقوب علوية للتهوية، ووضع الطفل فيه ورماه في النهر. جرى الصندوق مع ماء النهر مسافة طويلة. واتفق أن اصطدم أخيرا ببعض نباتات القصب قريبا من طاحونة ماء. رأى الطحان الصندوق فظن أن فيه كنزا، فأخرجه من الماء. وما كان أشد دهشته حين رأى أمامه طفلا نائما. حمل الطحان الطفل إلى زوجته، وقال لها: «هذا الطفل عطية من الله. إنه منذ اليوم ولدنا. وإني أسميه بيارن.»
حياة بيارن
نشأ بيارن في رعاية الطحان وزوجته اللذين كانا يحبانه حبا شديدا. وكان هو أيضا يحبهما ويساعدهما في أشغالهما، ولا يعرف له والدين سواهما. كان فتى رشيقا وسيما، عظيم الفطنة والشجاعة. وقد اعتاد أن يرخي شعره الأسود ليغطي عنقه. ولم يكن أحد يعرف لماذا يحرص بيارن على أن يرخي شعره على كتفيه.
لقاء الملك بيارن
ذات يوم خرج الملك بورغ يصطاد في بعض الغابات، يصحبه نفر من رجاله. وبينما هو يطارد غزالا وجد نفسه وحيدا في الغابة. هبت في هذه الأثناء عاصفة شديدة، فضل الملك طريقه، وراح يتنقل في البرية على غير هدى. فجأة وجد نفسه أمام طاحونة ماء ونهر صغير. كان الهواء عاصفا والمطر غزيرا فأسرع بدخول باب الطاحونة.
دخل الملك الطاحونة فاستقبله الطحان وزوجته وابنه الشاب استقبالا حسنا، وأجلسوه قرب النار لتجفيف ثيابه، وقدموا له الطعام والشراب، دون أن يعرفوا أن ضيفهم هو بورغ ملك البلاد. وكان الشاب في هذه الأثناء يقوم على خدمة الملك برضى وحماسة. وبينما هو يميل برأسه انكشفت في عنقه علامة صغيرة مميزة أشبه بهلال دقيق. لمح الملك العلامة فجمد في مكانه، ومرت بخياله صورة الطفل الصغير الذي أمر، قبل ستة عشر عاما، بقتله. وأدرك أن الشاب الذي أمامه هو نفسه الذي كان يخشى أن يتزوج ابنته، لكنه كتم غيظه.
خطة الملك للتخلص من بيارن
جلس الملك يفكر في حيلة يتخلص بها من الشاب. أخيرا استدعى الطحان وزوجته وابنه وشكرهم على ضيافتهم، ثم كشف لهم عن نفسه، وقال: «علي أن أرسل رسالة عاجلة وخطيرة إلى زوجتي الملكة، وآمل أن يقوم الشاب بإيصال هذه الرسالة.»
أبدى الشاب بيارن حماسة شديدة، وأعد جواده للسفر، وانطلق من فوره، وسط العاصفة، يحمل رسالة الملك تحت طاقيته. كان على بيارن أن يقطع مناطق واسعة وغابات شاسعة. وقد هبط عليه الليل وهو لا يزال يشق طريقه في الغابات. ووجد نفسه فجأة أمام كوخ صغير. استقبله في الكوخ حطاب كهل وزوجته فرحبا به وأكرماه إكراما شديدا، فقد ذكرهما بابنهما الذي اختطف طفلا قبل ستة عشر عاما، والذي لو كان بينهما آنذاك لكان في سن ذلك الشاب.
حيلة الحطاب وزوجته
استمع الحطاب وزوجته إلى الفتى بيارن يروي حكاية الرسالة التي حمله إياها بورغ، فساورتهما الشكوك، إذ كانا يعلمان أن الملك خبيث جشع. وعندما نام بيارن عالج الحطاب وزوجته الرسالة بحذر ففتحاها، وكان فيها ما يأتي: عندما يصل إليك بيارن، حامل هذه الرسالة، اقتليه فورا. غضب الحطاب وزوجته غضبا شديدا ومزقا رسالة الملك وكتبا بدلا عنها الرسالة الآتية: عندما يصل إليك بيارن، حامل هذه الرسالة، زوجيه ابنتنا كاتي فورا.
لقاء الملكة وبيارن
استيقظ بيارن باكرا، وشكر الحطاب وزوجته، وأسرع يتابع طريقه إلى قصر الملك. فوجئت الملكة برسالة زوجها، لكنها لم تجرؤ على مخالفة أمره. فاستدعت بيارن وزوجته ابنتها الفاتنة كاتي. عاد الملك بعد أيام من رحلة الصيد، فعلم بما حدث وكاد أن يموت من القهر والغضب. استل سيفه يريد أن يقتل بيارن بنفسه.
أمسكت الملكة يد زوجها وقالت له: ابنتنا كاتي تحب بيارن حبا شديدا، ولن تسامحك أبدا إذا أنت قتلته! جلس الملك يفكر في طريقة يتخلص بها من بيارن دون أن يغضب ابنته. وبعد تفكير طويل ابتسم ابتسامة خبيثة، واستدعى زوج ابنته، وقال له: ما أسعدني بك أيها الصهر العزيز! لكن عليك أن تثبت أمام رجال المملكة أنك جدير بابنتي.
مهمة إلى جزيرة الوطاويط
أنا طوع أمرك يا سيدي. أطلب مني ما تشاء! فقال له الملك: “إن في جزيرة الوطاويط عملاقا جبارا مرعبا، يقتل الناس ويهدد مملكتنا والممالك المجاورة. اذهب وانتزع الشعرات الفضية الثلاث في شاربيه. ففي تلك الشعرات سر قوته!” لم تكن قوة العملاق في شعرات شاربيه الفضية، لكن الملك أراد أن يرسل بيارن إلى قلعة العملاق ليتخلص منه، فإنه لم يخرج أحد من تلك القلعة حيا.
ودع بيارن زوجته ومضى في طريقه. وكان قد ذاع في أنحاء المملكة وأنحاء الممالك المجاورة أن كاتي، ابنة الملك بورغ، قد تزوجت شابا وسيما عظيم الفطنة والشجاعة، وأن ذلك الشاب ذاهب لملاقاة عملاق جزيرة الوطاويط. كان على بيارن أن يعبر للوصول إلى جزيرة الوطاويط مملكتين اثنتين، هما: عسلستان ودهبستان.
مرور بيارن بالممالك
مر أولا في مملكة عسلستان، فاستقبله ملكها واستضافه في قصره أياما. وقال له: “إن في حدائق القصر ينبوع عسل. لكن الينبوع جف منذ حين، ولا نعرف لذلك سببا.” نزل بيارن إلى حدائق القصر وراح يتأملها حينا، ثم قال: “يا سيدي، إن حقل الأزهار الذي يزود الينبوع بالرحيق يابس كله. اعتنوا به يعود نبعكم إلى العطاء!” شكر الملك وزوجته بيارن، وأهدته الزوجة قنينة عطر غريب إذا انتشر في الهواء منع كل رائحة سواه.
مر بيارن بعد ذلك في مملكة دهبستان، فاستقبله ملكها واستضافه في قصره أياما. وقال له مرة: “إن في حدائق القصر شجرة تحمل تفاحا من ذهب. لكن الشجرة يبست منذ حين، ولا نعرف لذلك سببا.” نزل بيارن إلى حدائق القصر وراح يتأملها حينا، ويدقق في ما حول شجرة التفاح من آثار وفتح، ثم قال: “يا سيدي، إن جرذا ضخما يأكل جذور شجرتكم. أقتلوا الجرذ تعود شجرتكم إلى العطاء!” شكر الملك وزوجته بيارن، وأهدته الزوجة مقصا صغيرا صامتا لا يسمع له حس.
وصول بيارن إلى جزيرة الوطاويط
وصل بيارن أخيرا إلى شاطئ البحر المطل على جزيرة العملاق. وقف يتأمل الجزيرة من بعيد ويفكر في الوطاويط التي تجوب فضاءها. رأى عند الشاطئ عجوزا ينتظر في قاربه. وكان يعلم أن ذلك العجوز هو وحده الذي ينقل من يرغب في العبور إلى الجزيرة. ولو حاول أحد العبور بغير وسيلة لانقضت عليه الوطاويط العملاقة وقتلته.
كان صاحب القارب العجوز ينتظر بيارن. فقد كان هو أيضا قد سمع أن كاتي، ابنة الملك بورغ، قد تزوجت شابا وسيما عظيم الفطنة والشجاعة، وأن ذلك الشاب ذاهب لملاقاة عملاق جزيرة الوطاويط. قال للفتى: “عد إلى بيتك يا بني، فإنه لم يخرج أحد من قلعة ذلك العملاق حيا.” أجاب بيارن: “أعود إلى بيتي عندما أنجز ما جئت من أجله.”
قال العجوز: “إذًا لدي عندك رجاء! إذا كتبت لك الحياة، اسحب لي من جيب العملاق الورقة التي تحررني. فأنا منذ عشرات السنين أنقل إلى الجزيرة من يرغب في العبور، ولا يخلصني إلا ما تكشفه تلك الورقة.” انطلق القارب صوب الجزيرة. وسرعان ما بدا التعب على العجوز وهو يجدف. وكانت السماء قد بدأت تمتلئ بوطاويط عملاقة، سوداء وحمراء، تحوم في الفضاء وكأنها تتأمل الزائر الغريب.
تسلل بيارن إلى القلعة
عندما وصل بيارن إلى شاطئ الجزيرة قفز من القارب وأسرع صوب قلعة العملاق. كان الليل قد أوشك على الهبوط، وبدت الوطاويط العملاقة تحوم على ارتفاع منخفض. دار بيارن حول القلعة يبحث عن مكان يتسلل منه إلى داخلها. أخيرا وجد موضعا مستندا في السور فتسلقه.
نزل بيارن إلى باحة القلعة مستترا بالظلام الذي كان قد بدأ ينتشر. وخشي أن يشتم العملاق رائحته فيعجل إليه ويقتله، ثم تذكر قنينة العطر العجيب التي أهدته إياها ملكة عسلستان، فأسرع يرش منها قطرات وسرعان ما انتشرت رائحة العطر العجيبة فملأت الجو من حول بيارن ومنعت كل رائحة سواها. تسلل بيارن إلى القاعة الكبيرة في القلعة، واختبأ وراء صندوق خشبي ضخم. وفجأة سمع وقع قدمين تخبطان الأرض خبطا شديدا كأنهما صخرتان ضخمتان.
مواجهة العملاق
شعر بيارن بالخوف من تلك الخبطات المخيفة، فتح قنينة العطر ورش منها قطرات أخرى. وما هي إلا لحظات حتى كان العملاق قد وصل القاعة ووقف في وسطها يدور برأسه ويتشمم الجو. غير أنه استدار بعد حين وخرج دون أن يشتم شيئا. بعيد منتصف الليل خرج بيارن من مخبئه واتجه إلى الغرفة التي ينام فيها العملاق. وكان شخير العملاق عاليا جدا، فلم يكن بيارن محتاجا إلى من يدله على تلك الغرفة.
تسلل بيارن إلى جانب العملاق. لكنه كان حائرا لا يعرف كيف ينتزع الشعرات الفضية الثلاث من شاربيه دون أن يوقظه. ثم تذكر المقص الذهبي الصامت الذي أهدته إياه ملكة دهبستان، فأخرجه وركع إلى جانب العملاق بحذر شديد يريد أن يقص شعرات شاربيه الفضية. في هذه اللحظة تحرك العملاق، فارتد بيارن مذعورا واختبأ وراء مقعد خشبي ضخم.
انتزاع الشعرات الفضية
انتظر بيارن حينا، ولما اطمأن إلى أن العملاق غارق في نومه، اقترب منه، ونجح هذه المرة في قص الشعرات الفضية الثلاث بالمقص الذهبي الصامت. وضع بيارن الشعرات في كيس صغير، وتراجع يريد الخروج من القلعة. ثم تذكر الورقة التي تحرر صاحب القارب العجوز فعاد إلى العملاق ودس يده في جيبه. شخر العملاق شخرة عظيمة، لكن بيارن لم يتراجع هذه المرة. ولم يمض وقت طويل حتى كان قد ترك القلعة. توقف لحظة خارج السور ليقرأ ما في ورقة العملاق.
الخروج من الجزيرة
كانت أشعة الشمس قد بدأت بالانتشار، وأخذت حركة الوطاويط العملاقة تتضاءل في الفضاء، فأسرع بيارن يتجه صوب الشاطئ مستترا بالصخور. استقبله صاحب القارب العجوز بترحاب عظيم، وسأله عن ورقة العملاق. فاستمهله بيارن، وقال له: “أوصلني أولا إلى الشاطئ!”
وصل القارب إلى الشاطئ فقفز بيارن منه، وقرأ في الورقة ما يأتي: “لن يتحرر صاحب القارب العجوز إلا إذا وضع طاقيته على رأس أحد الراغبين في العبور، وعندئذ يعلى ذلك العابر ولا يتحرر من سلطاني أبدا.”
عودة بيارن
ذاع بين الناس أن بيارن قد عاد سالما ومعه شعرات العملاق الفضية الثلاث. فكان الناس يستقبلونه حيثما حل استقبالا عظيما. في طريق عودته مر أولا في مملكة دهبستان، فاستقبله ملكها بترحاب عظيم، واصطحبه إلى شجرة التفاح التي كانت قد عادت تحمل ثمارها الذهبية. وعندما رغب بيارن في مغادرة القصر وهبه الملك بغلا ضخما محملا بالذهب.
مر بعد ذلك في مملكة عسلستان فاستقبله ملكها بترحاب عظيم أيضا، واصطحبه إلى ينبوع العسل الذي كان قد عاد يتفجر بالعسل الشهي. وعندما رغب بيارن في مغادرة القصر وهبه الملك بغلا ضخما محملا أيضا بالذهب، وبجرتين من العسل الشهي. وهكذا مضى بيارن في طريقه وهو يسوق بغلين محملين بالذهب وبجرتين من أطيب العسل.
انتصار بيارن ونهاية الملك بورغ
وصل بيارن إلى مملكة عمه بورغ، ففرح الناس بعودته واصطفوا في الطرقات يرحبون به ويرفعون الرايات. ووقفت زوجته الفاتنة كاتي على شرفة القصر تنتظر وصوله. وعندما أطل ركضت إليه وقد امتلأت عيناها بدموع الفرح. أما الملك بورغ فقد أصيب بذهول عظيم. وصار يخاف كثيرا من زوج ابنته الذي قهر العملاق وعاد بشعرات شاربيه الفضية.
كان الملك ينظر إلى الذهب الذي عاد به بيارن بحسد شديد. وذات يوم قال: “من أين جبت بهذا الذهب كله، أيها الصهر العزيز؟” ابتسم بيارن، وقال: “لقد جمعته من أرض جزيرة الوطاويط، فإنه منتشر هناك بوفرة. ما عليك إلا أن تطلب من العجوز، صاحب القارب، أن يحملك إليها.”
هب الملك من فوره يركب حصانه ليغرف الذهب من جزيرة الوطاويط، لكنه لم يعد من هناك أبدا، فقد كان صاحب القارب العجوز ينتظر عابرا من العابرين ليرمي عليه طاقيته.
نهاية سعيدة
نصب بيارن ملكا على البلاد فحكم بعدل ومحبة. واستدعى والديه اللذين ربياه صغيرا، وعلم منهما أنهما وجداه طفلا في صندوق. وسرعان ما توصل إلى معرفة والديه الطبيعيين. وما كان أشد دهشته وفرحه عندما علم أنهما الحطاب وزوجته اللذان استضافاه في كوخهما الصغير في الغابة، وأنقذا حياته.
وقد بني لوالديه الطبيعيين قصرا، وبنى لوالديه اللذين ربياه صغيرا قصرا أيضا. وعاشوا كلهم في سعادة عامرة.