كان يا ما كان يا قارئين يا كرام بعد الصلاة والسلام على خير الأنام، وصحابته الكرام. كان في الزمن القديم رجل عابد من بني إسرائيل اسمه (برصيصا)، بنى لنفسه صومعة خارج البلد، وبقي يتعبد الله فيها سبعين سنة؛ لم يرتكب خلالها خطيئة قط. كان لا يترك الصوم والصلاة، يصوم فلا يفطر إلا كل عشرة أيام، ويصلي فلا ينام إلا كل عشرة أيام، ويأكل مما يزرعه في صومعته من الخضروات ويشرب من نبع قريب.
فتضايق إبليس اللعين منه كثيرًا؛ كيف هذا الرجل يعبد الله تعالى سبعين سنة ولا يذنب ذنبًا واحدًا؟ فجمع شياطينه ووبخهم، وقال: كيف تدعون (برصيصا) يعبد الله تعالى سبعين سنة دون أن يرتكب ذنبًا قط، هل عجزتم عنه؟! أليس فيكم من يستطيع أن يغويه ويضله؟!. فسكتوا جميعهم لما يعرفون من شدة عبادة (برصيصا)!. وأخيرًا قام أحد الشياطين الكبار، وقال: أنا علي به.
فقال له إبليس: اذهب وعليك به، وإياك أن تعود خائبًا فأحرقك في النار.
الشيطان يخدع برصيصا ويتقرب منه
تزيى الشيطان بزي راهب عابد، حلق رأسه ولبس لباس الرهبان، وذهب إلى صومعة برصيصا وطرق الباب، فأطل عليه برصيصا من الصومعة وقال له: ماذا تريد؟
قال: أريد أن تدخلني إلى صومعتك لأتعلم العبادة منك وأعبد الله تعالى معك.
فقال له برصيصا: أنا لا أريد أحدًا معي، اذهب إلى غيري.
فلم يذهب الشيطان، وإنما جلس أمام نافذة برصيصا وصار يصلي، وبقي هكذا أربعين يومًا، وكلما أطل عليه برصيصا من النافذة وجده يصلي ويتعبد، وكل صلاته وتعبده كذب ونفاق، ولكن برصيصا لا يعرف ذلك.
وبعد الأربعين يومًا خجل برصيصا، وقال لنفسه هذا الرجل أعبد مني وأكثر تقوى مني، ويجب علي أن أدخله إلى صومعتي لأتبرك به، وفتح له الباب وقال له: ادخل يا أخي ولا تؤاخذني إذا كنت أهملتك كل هذه المدة.
فدخل الشيطان إلى الصومعة، واجتاز أولى العقبات. وصار يتعبد مع برصيصا في الصومعة، وكان أكثر عبادة من برصيصا، فبينما كان برصيصا يفطر كل عشرة أيام؛ كان الشيطان لا يفطر إلا كل أربعين يومًا، وبينما كان برصيصا ينام كل عشرة أيام؛ كان الشيطان لا ينام إلا كل أربعين يومًا، وكله كذب ونفاق، ولكن برصيصا لا يعرف ذلك. واستصغر نفسه أمام هذا الرجل العابد، وصار يتبرك به ولا يريد أن يفارقه.
برصيصا يشتهر بقدرته على الشفاء
ومضى على ذلك سنة، ثم قال له الشيطان الذي كان على صورة رجل عابد: إنني أريد أن أتركك وأذهب إلى مكان آخر.
فقال له (برصيصا): لماذا تتركني؟! فقد أنست بك وأحببتك، وأنا أتبرك بك وأخدمك طول عمري، فابق معي.
ولكن الشيطان قال له: لا بد من الذهاب، وأريد أن أعلمك دعاء؛ إذا جاءك رجل أو امرأة قد تلبسه جني ودعوت له بهذا الدعاء؛ فإن الجني يخرج حالًا ويشفى.
وعلمه الدعاء وذهب. ذهب إلى البلدة القريبة من صومعة برصيصا، ودخل في أحد الشباب فيها، فجن الشاب وصار يتخبط فأخذه أهله إلى الأطباء، ولكنه لم يشف، وأخيرًا وسوس لهم الشيطان أن يأخذوه إلى برصيصا فأخذوه، فدعا برصيصا بالدعاء الذي علمه إياه الشيطان، فخرج الشيطان من جسم الشاب لكي يظهر للناس أن برصيصا يشفي المجانين، وشفي الشاب وعاد مع أهله سليمًا معافى.
وانتشر الخبر في المدينة، لذلك صار كلما دخل الشيطان في رجل أو امرأة أخذوه إلى برصيصا فيدعو له فيشفى.
وأخيرًا دخل الشيطان في جسم بنت أخي الملك. وكان لها ثلاثة إخوة من الرجال، فجلبوا لها الأطباء؛ فلم تشف، ثم سمعوا أن برصيصا يشفي المجانين فأخذوها إليه فدعا لها، فشفيت، ولكن الشيطان دخل فيها ثانية، وصار كلما شفيت دخل فيها من جديد.
وعند ذلك وسوس الشيطان لإخوتها أن يبنوا لها بيتًا مقابل صومعة برصيصا لكي يقرأ لها صباحًا ومساءً، وصار كل يوم يبقى عندها واحد من إخوتها ثم صاروا لا يحضرون إليها إلا كل بضعة أيام.
سقوط برصيصا في خطيئة كبرى
وعند ذلك استغل الشيطان هذه الفرصة ففي أحد الأيام عندما أتى برصيصا ليقرأ لها في المساء وسوس له الشيطان وقال له: نم هنا إلى الصباح أفضل من أن تذهب ثم تعود في الصباح إلى هنا مرة ثانية.
فنام، وفي الليل وسوس له الشيطان وقال له: انظر إلى هذه الفتاة، كم هي جميلة إنها أجمل فتاة في المنطقة كلها، اذهب ونم معها فليس هنا أحد يراك.
فذهب ونام معها ونسي أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وتكرر هذا العمل عدة مرات.
وبعد بضعة أشهر ظهر الحمل على الفتاة فخاف برصيصا أن يفتضح أمره أمام الناس، فوسوس إليه الشيطان أن يقتل الفتاة ليخفي جريمته، فقتلها ودفنها في مكان بعيد عن الصومعة.
نهاية برصيصا السوداء
وعندما أتى إخوتها ولم يجدوها سألوا برصيصا عنها؛ فقال لهم: لا علم لي بها، قد يكون الشيطان الذي دخل فيها قد خطفها.
فعادوا إلى بيتهم خائبين. ولكن الشيطان أتى إليهم في المنام، وقال لهم: إن برصيصا قد قتلها، ودلهم على المكان الذي دفنها فيه، وقال لهم: إنها كانت حاملًا من برصيصا.
فذهبوا إلى ذلك المكان، فوجدوا أختهم مدفونة هناك، فاستخرجوها فوجدوها حاملًا كما قال الشيطان، فأخبروا الملك بذلك. فأمر جنوده أن يقبضوا على برصيصا ويحضروه إليه فواجهه بالحقيقة، فاعترف برصيصا بكل ما فعل، فحكم عليه بأن يقتل ويصلب ليكون عبرة للناس.
وقبل أن يقتل تمثل له الشيطان وقال له: ألا تعرفني؟
قال: لا.
قال: أنا العابد الذي بقي في صومعتك سنة كاملة يعبد الله تعالى معك!.
فقال له برصيصا: أنت الشيطان إذن، أنت أصل البلاء.
فقال له الشيطان: إذا كنت تريد أن أخلصك من هذه الورطة فاسجد لي.
فقال له برصيصا: إذا سجدتُ لك؛ فقد كفرت بالله تعالى.
فقال الشيطان: لا أخلصك من هذه الورطة إلا إذا سجدت لي.
فقال برصيصا: كيف أسجد لك وأنا مقيد بالحديد؟!
فقال الشيطان: يكفي أن تسجد لي بعينيك.
فسجد له برصيصا بعينيه. فكفر فمات كافرًا والعياذ بالله تعالى. ولم يخلصه الشيطان من شيء، بل فر هاربًا مسرورًا، وذهب إلى إبليس وأخبره بما كان من خبر برصيصا، ففرح إبليس فرحًا كبيرًا. وهذا جزاء من يطيع الشيطان.
العبرة من القصة
على الإنسان ألا يطيع وسوسة الشيطان ووسوسة النفس الأمارة بالسوء، ولكن كيف يعرف الإنسان أن هذا وسوسة شيطان، أو وسوسة نفس أمارة بالسوء؟ إذا وسوست له نفسه بشيء عليه أن يرى: هل هذا الشيء فيه مخالفة لأوامر الله تعالى؟ فإذا كان فيه مخالفة لأوامر الله تعالى؛ فهو وسوسة شيطان، عليه أن يبتعد عنه حالًا وهو يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وعلى الإنسان ألا يبقى مع امرأة غريبة عنه وحدهما في مكان مغلق وإلا كان الشيطان ثالثهما، كما حدث لبرصيصا على الرغم من عبادته سبعين سنة.