فتحت نافذة كوخنا الصغير المطل على شاطئ البحر أراقب الطريق انتظارا لعودة أمي من عملها. كانت الشمس قد أوشكت على المغيب والجو بارد والهواء يعبث بكل ما يقابله في قوة منذر بهطول المطر، وما هي إلا دقائق بدأ يتساقط المطر ويشتد تباعا.
كنت قلقا على أمي فكيف ستسير في هذا المطر وصحتها لا تحتمل هذا؟
أخذت المظلة وانطلقت على الطريق لأقابلها بها لتحتمي تحتها من المطر الذي غمر المكان بقوة.
لمحتها على أول الطريق وهي تحاول أن تلملم ملابسها حولها لتقي المطر. أسرعت نحوها فأحاطتني بذراعيها في إشفاق وقالت: “أخرجت في هذا المطر يا ولدي؟!”
أدنيت منها المظلة وأسندت يدها على كتفي قائلا: “راحتك هي راحتي يا أمي، فقد كنت قلقا لتأخرك اليوم.”
فأجابتني وهي ما زالت تلتقط أنفاسها: “معذرة يا بني فقد كان العمل كثيرا اليوم.”
قلق الابن على أمه في ليلة ممطرة
تمتمت في حزن: “منذ وفاة والدي – رحمه الله – وخروجك للعمل وأنت ترهقين نفسك كثيرا.”
ربتت على كتفي وعلى وجهها بسمة حانية وقالت: “لا عليك يا صغيري، فابتسامتك لي حين عودتي تزيل عني كل تعبي، هيا بنا نسرع إلى البيت.”
ولما وصلنا وجدت أمي الطعام معدا على الطاولة الصغيرة. سرت أمي وقالت: “أجهدت نفسك يا ولدي، كنت سأعده عند عودتي.”
قبلت يدها قائلا: “هذا لا يساوي شيئا أمام تعبك من أجلي.”
انتهينا من تناول العشاء فقامت أمي وهي تتحامل على نفسها والنوم يراود عينيها المجهدتين قائلة لي: “هيا يا صغيري اذهب إلى فراشك لتنام.”
فقلت: “حاضر يا أمي، وأنت ألن تنامي لترتاحي؟”
فقالت: “نعم يا بني لكن الصلاة أولا.”
نمت في فراشي وأنا أتأمل أمي وهي تصلي، ثم جلست تدعو ربها. ثم قلت في نفسي: “حفظك الله يا أمي كما تحفظين صلاتك رغم عنائك.”
غلبني النوم فلم أشعر إلا بقبلة أمي التي تطبعها على جبيني كل صباح وعبارتها الرقيقة: “صباح الخير والسرور يا ولدي الحبيب.”
عزيمة الصغير على مساعدة والدته
نظرت إليها وبادلتها التحية وقبلة الصباح فإذا هي مرتدية ثوبها استعدادا للخروج. فتحت أمي الباب فاندفعت تيارات الهواء البارد تهاجم الكوخ. جريت ناحيتها قائلا: “لا تخرجي في هذا البرد القارص يا أمي، انتظري حتى يعتدل الجو.”
قالت أمي وهي تحمل حقيبة يدها: “لا أستطيع يا ولدي، فإذا تأخرت عن العمل فسيخصم مني صاحب العمل أجر اليوم.”
نظرت إلى ثوبها الخفيف قائلا: “إن هذا الثوب لا يدفئك، لابد أن يكون لديك معطفا ثقيلا ترتدينه ليقيك البرد.”
ابتسمت أمي وهي تعبث بشعري في رفق قائلة: “لا تعبأ يا بني، ففي ذهني شيء أهم وأنا أدخر له.”
ودعتني أمي وسارت تشق طريقها بكل عزيمة لديها وكأنها تبادر قسوة الجو بالهجوم حتى تسيطر عليه وتواصل سيرها. تابعتها بعيني حتى اختفت وسط الضباب المخيم على الطريق.
جلست داخل الكوخ مهموما لأجل أمي، فماذا أستطيع أن أفعل حتى أخفف عنها كل هذه المشقة. أخذت أفكر طويلا حتى اهتديت إلى أن أذهب للعم راشد صديق والدي، فهو يعمل في صناعة شباك الصيد، سأذهب إليه وأعرض عليه أن أعمل عنده في هذه الحرفة حتى أتقنها وأحصل منها على مال.
العمل السري وأول أجر من كسب اليد
ذهبت إليه عند الشاطئ حيث ينتشر العاملون وبين أيديهم خيوط الغزل التي ينسجونها شباكا.
قابلني العم راشد بكل ترحاب مهللا: “مرحبا بك يا ابن أعز الأصدقاء، كلما رأيتك تذكرت والدك – رحمه الله – والأيام الجميلة التي قضيناها سويا في رحلات الصيد التي قمنا بها.”
تفاءلت بحديثه وأخبرته بأنني أتيت إليه راغبا في أن أعمل عنده في غزل شباك الصيد، لكنه أثار خوفي بسؤاله: “ألست صغيرا على هذا العمل؟”
فقلت في لهفة: “جربني يا عماه.. أرجوك.”
فتبسم وقال لي: “إذا سأنتظرك غدا لتبدأ العمل.”
فرحت بموافقته وشكرته على حسن ظنه بي ووعدته أن أكون جديرا بهذه الفرصة. ثم استأذنت والدتي في أن أذهب في بعض الأوقات عند العم راشد حتى أشاهد عمل الغزل فوافقت على ذلك الأمر حتى أتسلى في الأوقات التي تكون هي في عملها، لكنها اشترطت أن يكون وقت المذاكرة أولا. وبدأت أذهب للعم راشد وكل يوم أجتهد في مذاكرتي لأنهيها بسرعة ثم أسرع لعملي، كان إصراري على التعلم يجعلني أدقق وأفهم سريعا كل ما يقال لي من إرشادات. وكان العم راشد يمر علينا من وقت لآخر فيظهر إعجابه بتقدمي السريع في التعلم.
وفي ليلة العيد – بعد أسبوعين من التدريب والعمل- حضر العم راشد ليرى ما صنعت يداي، أثنى على إتقان الغزل وأخرج من جيبه بعض النقود وقال لي: “هذا هو أجرك يا بني.”
مددت يدي في سرور فهذه أول مرة أربح من عمل يدي، فأكمل حديثه وهو يعطيني نقودا أخرى: “وهذه عيدية العيد.. كل عام وأنت بخير يا ولدي.”
تبادل الهدايا يكشف عن تضحية الأم والابن
كدت أن أطير من الفرح. أمسكت النقود، أخيرا سوف أحقق ما تمنيته. فهذه النقود هي التي كنت أحتاج إليها لأشتري ما أريده، وستكون مناسبة طيبة أن أحضره في ليلة العيد، فذهبت مسرعا لشرائه. وعند عودتي إلى البيت وجدت أمي في انتظاري بابتسامتها العذبة تقول لي: “أغمض عينيك، عندي لك مفاجأة.”
اندهشت وقلت لها: “وأنا أيضا عندي لك مفاجأة.. أغمضي عينيك أولا.. هيا يا أمي.”
فتحت هديتي وأخرجت ما بها ثم لفته حول كتفي أمي قائلا لها: “الآن افتحي عينيك.”
نظرت أمي إلى ما يحيط بها فإذا هو معطف شتوي ذو فراء. فقالت في دهشة: “من أين أتيت بهذا المعطف؟”
حكيت لها ما فعلته فتأثرت بما قلته وأمسكت بكفي ونظرت إليهما في إشفاق قائلة: “أهذه اليد الصغيرة قويت على غزل الشباك؟”
نظرت إليها بامتنان قائلا: “اليد الصغيرة قويت بحبي لك يا حبيبتي، فقد كنت حين أغزل بها أتخيل أنني لا أغزل شبكة، بل أغزل لك خيوط المعطف الذي سيدفع عنك برد الشتاء.”
نظرت إلي نظرة عطف شعرت أنها تحتضنني بها ثم قالت: “والآن أغمض أنت عينيك لحظة.”
أغمضت عيني ثم فتحتهما لأجدها تحمل بين يديها حذاء جديدا لي. تذكرت قولها حين أخبرتني أن في ذهنها شيئا أهم من المعطف الذي يدفئها، فسألتها: “أهذا ما كنت تدخرين من أجله؟”
ضمتني في حنان وقالت: “وهل عندي ما هو أغلى منك يا صغيري، فقد كنت أعلم أن حذاءك القديم قد ضاق عليك وأنت لا تريد أن تخبرني حتى لا تحملني عبء شراء آخر جديد.”
قبلت يدها وأنا أدعو لها: “حفظك الله لي يا أمي الغالية.”
“دعت لي وبارك الله فيك يا ولدي الحبيب.”





