عاش في قديم الزمان طحان فقير له ثلاثة أولاد، وحين مات هذا الطحان لم يترك لأولاده سوى المطحنة ومعها حمار وهر. كانت المطحنة، طبعا، من نصيب الابن الأكبر، والحمار من نصيب الثاني. فلم يبق للابن الأصغر سوى الهر.
جلس الولد صاحب الهر حزينا، وأخذ يتنهد قائلا: «وا أسفي! ماذا أستفيد من هذا الهر؟ إنه لا يصلح لشيء! وليس معي حتى النقود لأشتري له بها طعاما!»
وإذا بالهر يكلمه قائلا: «لا تحزن يا معلمي العزيز. أعطني جزمة وكيسا، وسوف ترى أن أحوالنا أفضل مما تظن.» تعجب الشاب كثيرا حين سمع الهر يتكلم. وقال لنفسه: «ما دام هذا الهر قادرا على الكلام فلا بد من أن يكون شديد الذكاء، قادرا على أن يفعل ما يقول.»
كان مع ابن الطحان نقود قليلة هي كل ثروته، فاشترى بها للهر جزمة وكيسا. فرح الهر بالجزمة فرحا عظيما، فلبسها وأخذ يمشي بفخر ذهابا وإيابا أمام صاحبه، فلم يتمالك هذا من الضحك. من ذلك الحين دعا الشاب هره: الهر أبا الجزمة. أخذ الهر الكيس وعلقه بكيفه، وخرج إلى البستان فجمع بضع حسات طازجة طرية، ووضعها في الكيس.
وراح الهر أبو الجزمة يقطع الحقول واحدا بعد آخر، حتى وقف عند وكر أرنب. فترك فم الكيس مفتوحا، وجلس ينتظر في مكان قريب. أطل فجأة من الوكر أرنب سمين. شم رائحة الخس الطازجة، فاقترب منها قليلا، ثم قال: «آه ما أطيبها!» أدخل الأرنب أنفه أولا في الكيس، ثم رأسه، ثم سحب الهر بسرعة خيوط الكيس، وعلق الأرنب.
هدية من مركز كاراباس
حمل أبو الجزمة كيسه، وفيه الأرنب الذي اصطاده، ودخل قصر الملك، وطلب مقابلته. حين وقف أمام الملك انحنى مسلما، حتى كاد رأسه يصل إلى الأرض، وقال: «يا جلالة الملك، أرجو أن تقبل هذا الأرنب هدية من سيدي مركز كاراباس.» حين رأى الملك أمامه هرا يلبس جزمة ويتكلم، طرب المنظر، وقال: «أخبر معلمك أني أقبل هديته بالشكر والامتنان.»
في اليوم التالي، ذهب الهر واضطجع كالميت في أحد الحقول، وترك كيسه مفتوحا بجانبه، فعلقت فيه حجلتان سمينتان، حملهما الهر إلى الملك. أخذ الملك الهدية التي جاءته من مركيز كاراباس، ولشدة سروره بالحجلتين أمر بأن يرسل الهر إلى مطابخ القصر لكي يأكل.
كان لهذا الملك بنت، قال الناس إنها كانت أجمل أميرة في العالم. في أحد الأيام، سمع الهر أبو الجزمة أن الملك وابنته يقومان بنزهة في عربتهما على شاطئ النهر. فركض مسرعا إلى ابن الطحان، وقال له: «يا معلمي! إذا عملت الآن ما أقوله لك فإني أضمن لك النجاح والغنى.» فسأله ابن الطحان قائلا: «ماذا تريدني أن أعمل؟»
فأجاب الهر: «تعال معي.» وسار بصاحبه إلى شاطئ النهر، وقال له: «لا أريد منك سوى شيئين، أولهما: أن تستحم هنا في النهر. وثانيهما أن تحسب نفسك مركيز كاراباس.» فقال ابن الطحان: «لم أسمع في حياتي بمركيز كاراباس، لكني سأفعل ما تقول.»
لقاء الملك والغول
وبينما كان ابن الطحان يستحم في النهر، أطل الموكب الملوكي واقترب منه. كان الملك في عربته وابنته بجانبه، ووراءه النبلاء يركبون الخيول. وفجأة طرق أسماعهم صوت ينادي: «النجدة! النجدة! سيدي مركيز كاراباس يغرق!» تطلع الملك من عربته، فلم ير إلا الهر أبا الجزمة يروح ويجيء راكضا بجانب النهر.
وفي الحال طلب الملك من النبلاء أن يبادروا إلى إنقاذ الغريق. فأخرج من الماء. ثم ركض الهر إلى الملك وانحنى أمامه مسلما، حتى كاد رأسه يمس الأرض، وقال: «يا صاحب الجلالة! ماذا تريد من معلمي المسكين أن يصنع، بعد أن سرق لص شرير ثيابه؟» وكان الهر قبل ذلك قد خبأ الثياب تحت حجر كبير.
قال الملك حين أخبره الهر بالسرقة: «هذا مؤسف جدا، لا يجوز أن تترك المركيز عاريا.» ثم أمر أحد الخدم بأن يذهب إلى القصر، ويأتي المركيز ببدلة. وحين لبس ابن الطحان البدلة الفاخرة، أعجب الملك بجمال منظره، فدعاه إلى مرافقته في التهريج، وأجلسه في عربته بجانب الأميرة.
ثم ركض الهر مسرعا، فسبق العربة الملكية وتوقف في مرج كان فيه عشابون يقطعون العشب. فقال لهم الهر: «إن الملك قادم من هذه الجهة، وربما سألكم لمن هذا المرج. فعليكم أن تقولوا إنه يخص مركيز كاراباس، وإن لم تفعلوا، قطعت رؤوسكم كما تقطع هذه الأعشاب!» كان العشابون بسطاء قليلي الفهم، فذعروا لما سمعوا هرا يتكلم بهذه الطريقة الوحشية.
مر الملك ونبلاؤه من هناك بعد قليل، وحين رأى المرج الواسع الأخضر، أوقف عربته وسأل العشابين: «لمن هذا المرج البديع؟» فأجابوا: «إنه للمركيز كاراباس يا صاحب الجلالة!» فالتفت الملك إلى ابن الطحان وقال: «إنك تملك مرجا بديعا جدا يا سيدي!»
حقل الذرة وخطة الهر
في أثناء ذلك كان الهر يركض حتى وصل إلى حقل ذرة فيه حصادون يحصلون. فقال لهم الهر: «سيمر الملك من هنا راكبا عربته، فإذا سألكم لمن حقول الذرة هذه، قولوا إنها لمركيز كاراباس، وإلا حصدت رؤوسكم حصدا!» ذعر الحصادون، كما ذعر العشابون قبلهم، حين سمعوا هرا يتكلم بهذه الطريقة الوحشية.
بعد قليل، ظهر الملك وابنته، ووراءهما النبلاء، وللمرة الثانية أوقف عربته وسأل الحصادين: «لمن هذه الحقول البديعة؟» فأجابوا: «إنها للمركيز كاراباس.» فقال الملك لنفسه وهو ينظر إلى ابن الطحان: «يا له من رجل غني وجميل الصورة! أعتقد أنه خير من يصلح زوجا لابنتي.»
كانت تلك الحقول تخص غولا يعيش في قصر غير بعيد عن المكان الذي وصل إليه الملك، وكان الهر أبو الجزمة قد تقدم العربة، ووصل إلى القصر الذي يسكنه الغول. فدق الباب ففتحه له الغول بنفسه. فقال الهر: «يا سيدي! إني أقوم برحلة. وقد سمعت الكثيرين يتحدثون عنك، ويقولون إنك رجل كريم، فشجعني ذلك على زيارتك.»
تعجب الغول ودعوة الهر
تعجب الغول حين سمع هرا يتكلم، لكنه فرح فرحا شديدا عندما علم أن الناس يقولون إنه رجل كريم، فدعا الهر فورا إلى دخول قصره. وحين جلسا، قال له الهر: «سمعت أنك قادر على التحول إلى أي حيوان أردت!» فأجابه الغول: «هذا صحيح.» وفي اللحظة عينها تحول إلى أسد. فأصيب الهر برعب شديد، وراح يتسلق مسرعا رفوف خزانة كانت هناك، حتى بلغ أعلاها وتكوم بعيدا عن الخطر.
لكن الغول رجع فجأة إلى حالته الأولى، فقفر الهر من أعلى الخزانة إلى الأرض، وقال للغول: «أعترف لك يا سيدي بأنك أرعبتني. لكني لا أظن أن رجلا ضخما مثلك يجد صعوبة في التحول إلى حيوان ضخم كالأسد، بل أعجب من هذا أن نرى غولا مثلك يتحول إلى حيوان صغير!» وتابع الهر قائلا: «لا أظنك تقدر على التحول إلى فأرة مثلا!» فقال الغول: «ماذا تقول؟ لا أقدر على التحول إلى فأرة؟ يمكنني أن أصير أي شيء أردت!» وفي الحال انقلب الغول فأرة صغيرة رمادية، أخذت تسعى على الأرض أمام الهر. وبقفرة واحدة، انقض الهر على الفأرة وابتلعها! وهكذا لم يبق للغول من أثر!
وصول الملك إلى القصر
وصل موكب الملك في ذلك الوقت إلى القصر، وحين سمع الهر صوت العربات، ركض إلى البوابة وانحنى إلى الأرض قائلا: «يا صاحب الجلالة! أهلا بك في قصر مركيز كاراباس!» صاح الملك مخاطبا ابن الطحان: «ما هذا يا سيدي؟ أهذا القصر يخصك أيضا؟ ليس لي قصر مثله في جميع مملكتي!»
ظل ابن الطحان ساكتا، لكنه مد يده ليساعد الأميرة على النزول من العربة. دخلوا القصر جميعا، فوجدوا مائدة عظيمة كان الغول قد أمر بإعدادها لضيوفه. لكن الضيوف امتنعوا عن الحضور حين علموا أن الملك جاء القصر زائرا.
جلس الملك والأميرة إلى المائدة، وجلس معهما النبلاء وابن الطحان، ووقف الهر أبو الجزمة بجانب صاحبه. وكان الملك كلما زادت معرفته بابن الطحان ازداد به إعجابا. وما انتهت الوليمة حتى قال له: «أنت الزوج الذي كنت أنتظره لابنتي، ولا يرضيني سواك. أريد الآن أن أجعلك أميرا!»
فأجاب الشاب: «ليس في الدنيا امرأة أرغب في الزواج بها سوى الأميرة.» وقالت الأميرة: «ليس في الدنيا أحد أريده زوجا سوى هذا الذي اختاره أبي.» وهكذا تزوجا وعاشا في هناءة وسرور في قصر الغول.
حياة الهر في القصر
أما الهر أبو الجزمة فكان سعيدا جدا في القصر، ينعم بقرب الملك والأمير والأميرة، ويلقى منهم أعظم عطف ومحبة. وأصبح غير محتاج إلى تصيد طعامه. فقد عاش في القصر على ألذ الأطعمة وأشهاها حتى آخر أيامه.