إن النار التي نضرمها في المطبخ تبقى دائماً جائعة. كلما وضعنا الحطب في الموقد يشتعل ويتصاعد منه الدخان حتى يصل إلى سقف المطبخ. وهكذا تأكل النار الحطب الذي نضعه في برهة وجيزة من الزمن، وكأن لسان حالها يقول: “هاتوا المزيد، هاتوا المزيد”.
غريبة هذه النار التي تظل تطعم ولا تشبع، وحينما لا تجد من يغذيها، تهيب بالخادم ليقدم لها ما هي بحاجة إليه. وما حاجتها إلا المزيد والمزيد من الوقود والحطب والفحم وجذوع الأشجار.
كثيراً ما كان الخادم توفيق ينام بعد أن يشعل النار في الموقد. فيستيقظ على صوت يناديه، ويكون هذا الصوت صوت الموقد الملحاح في الطلب، والمحتاج دوماً إلى الحطب. إنها النار الجائعة التي ما شبعت يوماً ولن تشبع. ينهض توفيق ليضع في النار حفنة جديدة من الحطب، ثم يعود إلى النوم. وما هي إلا لحظات حتى يعود الموقد فيوقظه مجدداً، ليقدم للنار ما تحتاجه بعد أن تكون قد أكلت كل ما قدمه إليها قبل أن ينام.
خوف الحطب وقلق توفيق
وهكذا دواليك، توفيق يعيش حالة من القلق والتبرم، فالملالة تسيطر عليه. كانت قطع الحطب ترتجف وتخاف كلما مد توفيق يده إليها ليأخذ منها طعاماً للنار. وكل واحدة منها كانت تبكي وتندب حظها العاثر. ولم يكن حظ الواحدة بأحسن من حظ الأخرى، لأن مصيرهن جميعاً كان الهلاك بعد أن يقدمهن توفيق طعاماً للنار.
في أحد الأيام، بقي في الصندوق قطعة فحم وحطب وغصن شجرة واحد، بعد أن قدم توفيق كل ما كان في الصندوق من الفحم والحطب وغصون الأشجار للنار. نظرت القطع إلى حالتها البائسة وندبت حظها، فتأكدت أن مصيرها الهلاك قد أصبح وشيكاً.
نداء الأمل لقضيب الحديد
قالت قطعة الفحم: “لا يوجد من يمكن أن يساعدنا إلا قضيب الحديد الذي يحرك به توفيق النار. إذا قبل بمساعدتنا، قد نخلص من الموت الذي لا يرحم ولا يشفق”.
تطلعت جميع القطع إلى توفيق ووجدته نائماً. فقالت إحداهن للأخرى: “إذن، الفرصة مفتوحة أمامنا، نادي قضيب الحديد”. فنادته إحداهن، فجاء القضيب مسرعاً، مستغرباً لأنها كانت المرة الأولى التي يسمع فيها هذه الأشياء تكلمه.
وقال في نفسه: “ترى ماذا تريد مني؟”.
كان غصن الشجرة أول من سلم على قضيب الحديد، وبعدها سلمت قطعة الحطب. لكن القضيب وقف محتاراً، لا يعرف ماذا تقصد هذه القطع من وراء سلامها. فسأل: “ما الحكاية؟ أخبروني ماذا تردن مني؟”
حوار الفحم والحطب مع قضيب الحديد
عندئذ بدأت قطعة الفحم بحزن وقالت: “أنت تعرف أن النار أكلت جميع إخوتي وأخواتي وعمتي وخالاتي، وقريبًا سيأتي دورنا، فما عسى أن يكون مصيرنا إلا كتلك النهاية التي لا رحمة فيها ولن تشفق”.
قاطعتها قطعة الحطب قائلة: “هل تستطيع أن تخلصنا من شر النار الآكلة؟ نرجوك أن تساعدنا”. بكى قضيب الحديد وهو يستمع إلى كلام هؤلاء الثلاثة اللاتي كنّ ينتظرن مصيرهن في النار، ثم رفع رأسه وقال: “من المؤسف أني لا أستطيع مساعدتكن، ولكن سأحاول قدر استطاعتي”.
قال قضيب الحديد ذلك وعاد إلى مكانه، وصار يتطلع حوله. رأى توفيقًا نائمًا وفكر في سحبه ورميه في النار ليتخلص منه وترتاح القطع والأشجار. هتف الجميع بفكرة القضاء على توفيق، واتفقت المكنسة مع الملقط لمساعدة قضيب الحديد في سحب توفيق إلى النار حالما يستيقظ.
محاولة القضاء على توفيق
بعد لحظات، ارتفع صوت النار تطلب المزيد من الطعام. نادت توفيق الكسلان حتى يناولها المزيد من الفحم أو الحطب. استيقظ توفيق وسأل النار: “هل أنت جائعة؟ حسنًا، انتظري قليلاً حتى آتي لك ببعض الفحم”. صاح قضيب الحديد: “هيا بنا”. سارعت المكنسة والملقط لمساعدة قضيب الحديد على حمل توفيق ليتم رميه في النار. رفضت النار قائلة بأن لحم توفيق لا ينفعها، لكن هؤلاء لم يكونوا على استعداد لسماع كلامها وألقوا به في النار فأكلته.
أخيرًا، شعرت النار بالجوع من جديد وصرخت: “من منكم يريد أن يقدم لي بعض الطعام؟” رد قضيب الحديد: “لا أحد…”.
تدخل المياه
حينها هددت النار بأنها ستحرق البيت وتحرقهم معه، لكنها ردت ساخرة: “افعلي ما تشائين إذا كان بوسعك أن تحرقي البيت”. وفجأة، دخلت المياه إلى المطبخ، وكان منظرها كافيًا لتسكت النار عن التهديد.
انتبهت المياه إلى الحضور وقالت: “هل لي أن أساعدكن في شيء يا أخواتي؟” ردت جميعهن بصوت واحد: “نرجوكِ أيتها الأخت الحبيبة أن تسرعي في إطفاء هذه النار التي لا يعرف قلبها الرحمة ولا الشفقة، فتستريح وتريحنا إلى حين. إنها قد قضت على كل أهلنا وأقاربنا وهي الآن جادة لأن تلتهمنا، وحتى لو التهمتنا وغيرنا مهما كان العدد، فلن يدركها الشبع ولن تكف عن الطلب، طلب المزيد”.
نهاية النار
رقت المياه لحال تلك البائسات، وتقدمت بقوة واندفاع شديدين لإطفاء النار وخلصت الجميع من شرها. ودع الفحم والحطب وأغصان الأشجار شاكرين للمياه حسن صنيعها ومعروفها الذي لا يُنسى. انطلقوا يرقصون ويغنون لأن القدر هيأ لهم فرصة الخلاص من حقد النار التي لا ترحم.
هدم الموقد
في اليوم التالي، حضر صاحب المنزل ووجد الموقد في حالة بائسة، مليئًا بالرماد، ووجد المنزل باردًا لدرجة لا تُطاق. فكر في نفسه قائلًا: “أرى أن فائدة هذا الموقد قد انتهت، وأنا قليلاً ما أكون في المنزل خلال الشتاء. فهدمه أولى من بقائه، فمنه غير الضرر والخسارة”. هدمه ووضع مكانه فرن غاز، فلا دخان ولا ما يلوث الجدران وسقف الغرفة بلونه الأبيض الجميل بدلًا من اللون الأسود القبيح.
وهكذا، تأتي النظافة كما يقال: “من الإيمان، وأن نرتاح ولا نكدر الآخرين مسببين لهم التعاسة، خير وأجدى”.