جاء رمضان ببهجة جديدة لأطفال القرية، فقد أقام أحدهم فرنا للكنافة، فذهب الأطفال يحيون صاحبه المعلم أحمد الذي استقبلهم بصياح وتهليل وترحيب قائلا: “الله أكبر.. هلت ليالي رمضان.. ليالي الخير والبركات.”
لعب الأطفال في الوسعاية (الميدان) وهم يضعون فوانيسهم الزجاجية الملونة المضاءة بالشموع بالقرب منهم.
كان الوقت صيفا، وبداية إجازة المدارس والأطفال فرحون بالإجازة وبهلال شهر رمضان.
فرحة رمضان يصطدم بحزم الحارس فرج
لكن جاء فرج خفير القرية بشاربه المعقوف وطربوشه الأحمر الطويل المميز، وصاح صيحة مرعبة يعلن عن وجوده الهام: “هيه.. مين هناك؟”
ولم يكن هناك سوى الأطفال الذين استمروا في لعبهم، ولم يأبهوا بالحارس. غضب فرج وصاح: “ابعد يا ولد أنت وهو.. اذهبوا إلى بيوتكم.”
قال خلف أكبر الأطفال محتجا: “نحن ننتظر المسحراتي يا عم فرج.”
“عودوا إلى بيوتكم وإلا حجزتكم في الدوار.”
ترك الأطفال الميدان (الوسعاية) وذهبوا إلى فرن الكنافة الوحيد واستقبلهم المعلم أحمد بمزيد من الترحيب والمزاح. لعب الأطفال أمام الفرن والمعلم أحمد سعيد بوجودهم. لكن.. أبدا.. لم يتركهم الحارس الهمام فرج، فصاح فيهم غاضبا وطالبهم بالعودة إلى بيوتهم فورا.
قال له المعلم أحمد: “دعهم يا عم فرج، إنهم زينة الحياة الدنيا.”
صاح فرج غاضبا: “اصمت أنت يا بائع الكنافة، وإلا اتخذت معك إجراء الأمن والنظام لأن فرنك يجمع المشاغبين.”
صمت المعلم أحمد خوفا على فرن الكنافة، مشروعه الجديد الذي يرجو منه خيرا كثيرا.
المسحراتي يفتقد الأطفال ويلقن الحارس درسا عن العفاريت
أذعن الأطفال وانصرفوا من الميدان كارهين. وفي وقت السحور، بدأ صوت الطبلة الصغيرة يرن في الفضاء ويبرد الصمت، وارتفع صوت عم محمود مسحراتي القرية العجوز: “يا عباد الله.. وحدوا الله.. سحورك يا صايم صلي على النبي.”
وصل المسحراتي إلى الميدان، فلم يجد الأطفال ينتظرونه كعادتهم كل رمضان، وسمع صياح الحارس الممطوط القوي: “هيه مين هناك؟”
نهق حمار المسحراتي: “عاااه.. عاااه.”
وصاح المسحراتي: “أنا عمك محمود المسحراتي يا فرج.. كل سنة وأنت طيب.”
“وأنت طيب يا مسحراتي.”
“أين الأطفال يا فرج؟”
“طردتهم.”
“لماذا؟! والقرية آمنة والأيام مباركة.”
“ولماذا تسأل عنهم يا مسحراتي؟!”
“إنهم رفقة طيبة وبهيجة، يؤانسون وحدتي، ويمسكون الفانوس الكبير.. ويوقظون الصائمين معي.”
“وأنت ما عملك؟!”
“يا فرج.. الأطفال هم الملائكة الذين يسجنون العفاريت.”
دب الرعب في قلب فرج عندما سمع كلمة “العفاريت”. وقال: “لا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم احفظنا، واجعل كلامنا خفيفا عليهم يا رب.” وتشجع فرج الحارس، وقال للمسحراتي: “لكن العفاريت كلها مسلسلة ومحبوسة إكراما لشهر رمضان.”
“نعم، والأطفال هم السبب يا فرج.”
وفي الحارة كان الأطفال يجلسون أمام بيوتهم يحكون حكايات من ألف ليلة وليلة عندما سمعوا صوت المسحراتي يرتفع في الفضاء. قص الأطفال على المسحراتي ما حدث من الحارس. وقص المسحراتي ما حدث أيضا من الحارس ودعاهم لانتظاره في الميدان لأن الحارس لن يتعرض لهم. لكن الحارس فرج خالف توقعات عم محمود المسحراتي وطرد الأطفال وجرى خلفهم مهددا عندما أبدوا بعض العناد.
قال المسحراتي للحارس مرة أخرى: “طردت الأطفال، وتركت العفاريت تمرح في القرية يا فرج، فأنا قد رأيت عفريتا يخرج من زرع الحاج سليمان، كان يشبه خيال المآتة الذي يحرس الزرع من العصافير.”
خطة الأطفال وخيال المآتة الذي أرعب الحارس
في اليوم الثالث، قرر الأطفال شيئا.
في المساء، سار فرج الحارس على الجسر، وصاح بصوته القوي الممطوط: “هيه مين هناك؟”
سمع الحارس صياح بومة، فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم رأى فأرا يختبئ في زرع الحاج سليمان، كما سمع حركة بين المزروعات، وأصوات غامضة، ورأى خيال المآتة منتصبا وسط الزرع، فتذكر حديث عم محمود المسحراتي العجوز.
دب في قلب فرج الرعب، وذكر اسم الله كثيرا ليعيد لقلبه الاطمئنان. لكن ما هذا؟! إن خيال المآتة يتحرك نحوه، وعيناه تشعان ببريق مخيف.. إنه العفريت الذي ذكره المسحراتي.
صاح بصوت مرتجف: “مين هناك؟”
التقطت أذناه أصواتا غريبة غير مفهومة.. أصوات مدمدمة مغمغمة: “أووه.. نووه.. كووه.. امسكوه وفي جهنم احدفوه.”
هرول الحارس خائفا على الجسر، وفاجأه صوت حمار المسحراتي “عاااه”، صوت كأنه انفجار، فأطلق الحارس ساقيه للريح، ووجد نفسه يقف أمام المسحراتي الذي سأله: “ماذا بك يا فرج؟!”
“من؟! المسحراتي.. قل لي.. هل رأيت العفريت خيال المآتة؟!”
“رأيته أمس.”
“واليوم؟!”
“لم أمر من هناك يا فرج، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. هل رأيته أنت؟”
تماسك الحارس وقال بصوت غليظ: “أنا؟ ماذا تقول؟ لا توجد عفاريت.. هذه خرافات.”
ابتسم المسحراتي، وقال له: “دع الأطفال يلعبون، وستختفي العفاريت.”
اعتراف الأطفال وتغير الحارس فرج
في اليوم الرابع، لم يتعرض الحارس للأطفال، وسار بعيدا عنهم وكأنه لا يراهم، والشيء الذي أثار دهشة الأطفال هو جلوس الحارس معهم عند فرن المعلم أحمد يستمع إلى حكاياتهم ويضحك. والشيء الأعجب أنه قص عليهم حكاية السندباد ورحلاته السبع.
في آخر ليلة من رمضان، وفي المساء، تجمع الأطفال حول الحارس فرج، وقال له خلف: “يا عم فرج أنا طالب السماح منك.”
“لماذا يا بني؟”
“أنا عملت عفريتا، ولبست ملابس خيال المآتة وأخفتك.”
وصاح الأطفال ضاحكين: “ونحن اشتركنا في إخافتك.”
صاح الحارس فرج وهو يمسك شاربه: “أنا لا أخاف مطلقا. ثم ما هذه العفاريت التي تتحدثون عنها، ألم يعلموكم في المدارس أن هذه خرافات لا وجود لها.”
ضحك الأطفال قائلين: “كل سنة وأنت طيب يا عم فرج.. بكره العيد.”
“كل سنة وأنتم طيبون.. هيا عودوا إلى بيوتكم، فلن أسمح بوجود أحد يخل بالأمن والنظام.”
انصرف الأطفال وهم يضحكون ويغنون: “يا ليلة العيد آنستينا وجددت الأمل فينا.”
وسار الحارس على الجسر بخطوات واثقة وهو يصيح بصوت قوي: “هيه.. مين هناك.”





