كانت الأرض هامدة مستقرة، لا يعكر صفوها شيء. ولم يخلقها الله لتبقى كذلك، وإنما خلقها لتكون مكانا للدراسة والتعلم، ومكانا للامتحان والاختبار والابتلاء لبني آدم؛ ليرى الله – وهو أعلم – من يطيعه من بني آدم فيعيده في الآخرة إلى الجنة التي خرج منها أبواه آدم وحواء، وليرى – وهو أعلم – من يعصيه ويطيع إبليس وجنوده، فيرسله في الآخرة إلى النار التي خلق منها إبليس وجنوده.
نزل آدم وحواء من الجنة إلى الأرض ليعمرها هو وذريته، ونزل إبليس أيضا بعد أن أمهله الله إلى يوم القيامة؛ ليبتلي به عباده ويمتحنهم.
وصارت حواء تحمل وتضع، وضعت أربعين ولدا في عشرين بطنا. فكانت تحمل في كل بطن ولدين ذكر وأنثى. وأول ولدين وضعتهما، كان اسم الذكر منهما قابيل، واسم شقيقته الأنثى أقليما، وبعد سنتين وضعت هابيل وشقيقته لبودا. وآخر ولدين وضعتهما كان اسم الذكر منهما عبد المغيث، واسم الأنثى أم المغيث. وقد عمر آدم ألف سنة، وعندما مات كان عدد أولاده وذريته أربعين ألفا.
بداية البشرية وصراع الطاعة والعصيان
وشب قابيل وشقيقته وهابيل وشقيقته، وصار قابيل يعمل في الزراعة؛ فكان يزرع الحنطة والشعير والحبوب، وصار هابيل يعمل في تربية الغنم والمعز والمواشي. وكان قابيل مشاكسا، كثيرا ما يخالف أباه وأمه ولا يطيعهما، وكان هابيل صالحا مطيعا، لا يخالف أباه وأمه أبدا.
وأوصى الله آدم أن يزوج الذكر من كل بطن من أنثى من بطن غير بطنه؛ أي: لا يتزوج من الأنثى التي ولدت معه في البطن نفسه. لذلك أمر آدم قابيل أن يتزوج من لبودا شقيقة هابيل، وأمر هابيل أن يتزوج من أقليما شقيقة قابيل.
فرضي هابيل ولم يرض قابيل؛ بحجة أن شقيقته أقليما أجمل من شقيقة هابيل لبودا. فقال له أبوه آدم: “إن الله قد أمرني بذلك، ولا يجوز أن تعصيه وتعصيني.”
ولكن قابيل أصر على رفضه، فهو مشاكس ومخالف دائما! عند ذلك قال لهما أبوهما: “ليقدم كل واحد منكما قربانا إلى الله تعالى، والذي يكون قربانه مقبولا يكون الحق معه.”
إن آدم يعلم أن الحق مع هابيل، ولكنه أراد من ذلك أن يعرف قابيل ذلك أيضا، لعله يقتنع إذا رأى أن الله قد قبل قربان هابيل، ولم يقبل قربانه هو.
قربان يكشف نوايا القلوب
ولأن قابيل يعمل في الزراعة فقد قدم كومة من الحنطة، ولكنها كانت فاسدة سيئة. ولأن هابيل يعمل في تربية الأغنام فقد قدم أحسن كبش عنده.
وضعا القربانين كومة الحنطة والكبش على رأس الجبل. وفي الليل نزلت نار من السماء فأكلت الكبش ولم تأكل الحنطة الفاسدة، أي: إن الله قد قبل قربان هابيل ولم يقبل قربان قابيل.
فقال له أبوه آدم: “أرأيت يا قابيل؟! إن الحق مع هابيل ويجب أن يتزوج شقيقتك أقليما، وتتزوج أنت شقيقته لبودا، ألم تقتنع بعد؟”
فقال قابيل: “إنني لم أقتنع ولا أريد أن أقتنع، ولن أتزوج شقيقته، ولن أزوجه شقيقتي.”
فقال آدم: “حسبي الله ونعم الوكيل منك يا عاص، ولن يغفل الله تعالى عنك.”
وسافر آدم إلى الحجاز ليحج إلى الكعبة المشرفة، قبل أن تهدم بطوفان نوح. واستغل قابيل غياب أبيه آدم فأتى إلى أخيه هابيل، وقال له: “أريد أن أقتلك لأتخلص منك؛ لأن الله قبل قربانك ولم يقبل قرباني.”
فقال له هابيل: “إن الله يقبل من المتقين الطائعين، ولا يقبل من العاصين. وإن كنت تريد أن تقتلني فأنا لا أريد أن أقتلك، وإن قتلتني ستحمل ذنبي في عنقك.”
أول جريمة قتل على الأرض
ووسوست نفس قابيل الشريرة له أن يقتل أخاه هابيل. ولكن كيف يقتله؟ إنه لا يعرف كيف يقتله! فهذا شيء لم يحدث قبل ذلك على الأرض. عند ذلك ظهر له إبليس اللعين، وبين له كيف يستطيع قتل أخيه، فأتى بطائر، ووضع رأسه على حجر، وأتى بحجر آخر فضرب به رأس الطائر الموضوع على الحجر، فمات الطائر. فتعلم قابيل كيف يقتل أخاه هابيل.
وعند ذلك انتظر إلى أن نام هابيل، فوضع رأسه فوق حجر، وأتى بحجر آخر كبير فضربه به، فانكسر رأس هابيل ومات! وعندما رأى قابيل الدم يخرج من رأس أخيه هابيل، خاف وصار يناديه: “هابيل، هابيل، رد علي. لماذا لا تكلمني؟! تحرك، قم.”
ولكن هابيل لم يتحرك ولم يقم ولم يتكلم، فقد مات.
وهذا شيء لم يكن ينتظره قابيل، ولم يكن يعرف أن الموت هكذا! يفقد المرء فيه حركته وكلامه. فخاف كثيرا وصار يصيح: “يا هابيل، يا هابيل يا أخي، قم، كلمني، لماذا أنت ساكت؟! قم وتزوج شقيقتي أقليما، وأنا أتزوج شقيقتك لبودا؛ فقد رضيت بذلك.” وأخذ يهزه بعنف، ولكن هابيل لم يقم ولم يتحرك ولم يتكلم.
حيرة القاتل وجسد لا يعرف مصيره
وعندما يئس قابيل منه جلس إلى جانبه يبكي وينتحب، وصار ينام ويأكل إلى جانبه. وجاءت الوحوش والطيور لتأكل جسد هابيل، فصار قابيل يطردها، وغطى أخاه بجلد، ثم حمله على ظهره وأخذ ينتقل به من مكان إلى مكان. ولا يدري ماذا يصنع به، وبقي كذلك أربعين يوما. وندم على ما فعل ندما شديدا، ولكن الندم لم يعد يفيد شيئا؛ فقد قتل هابيل.
وفي أحد الأيام، جلس قابيل ووضع إلى جانبه أخاه هابيل بعد أن تعب من حمله على ظهره، وصارت الروائح الكريهة تخرج من جثة هابيل، بعد كل هذه الأيام.
واحتار قابيل ماذا يفعل؟! وبينما هو جالس إذا بغرابين يقتتلان، وظلا يقتتلان حتى قتل أحدهما الآخر.
غراب يعلم البشرية الدفن
وبعد أن قتله أخذ يحفر الأرض، ثم وضع الغراب القتيل في الحفرة وستره بالتراب. فاندهش قابيل، وقال: “ما أجهلني! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأدفن أخي في التراب مثلما دفن هو رفيقه في التراب، حتى حملته على ظهري أربعين يوما؟!”
وقام فحفر الأرض ودفن أخاه وستره بالتراب. وكان عمر هابيل حينما قتل عشرين عاما.
وهكذا قتل هابيل ظلما، وكان قتله أول جريمة قتل على وجه الأرض، وتحمل ذنب قتله أخوه قابيل الذي قتله ظلما. وكل من يقتل ظلما على وجه الأرض إلى يوم القيامة سيتحمل ذنب قتله قابيل أيضا بالإضافة إلى القاتل؛ لأنه هو الذي سن هذه السنة السيئة في الأرض.
وندم قابيل ندما شديدا على ما فعل ولكن بعد فوات الأوان، فاسود وجهه. وهرب إلى بلاد اليمن قبل أن يعود أبوه آدم من الحج.
عواقب الجريمة وغضب الله
وفي اليمن أتاه إبليس، وزين له عبادة النار، فقال له: “النار هي التي أكلت قربان أخيك هابيل، ولم تأكل قربانك، فيجب عليك أن تعبدها لكي ترضى عنك!”
وهكذا صار يعبد النار هو وذريته وكفروا بالله تعالى.
وفي أحد الأيام بعد أن كبر قابيل، بينما كان جالسا مستندا إلى الجدار، كان أحد أولاده يلعب برمي الأحجار، فجاء حجر على رأس قابيل فكسره فمات. وهكذا مات قابيل بالطريقة نفسها التي قتل بها أخاه هابيل. أما ذريته فقد استسلمت للهو والفجور وشرب الخمور والفواحش بعد أن حل عليهم غضب الله تعالى وغضب آدم.
أما آدم فبعد أن عاد من الحج وعلم بما حدث؛ حزن حزنا شديدا، حزن على ابنه هابيل الذي قتل مظلوما، وحزن على ابنه قابيل الذي عصى الله تعالى وعصاه وأطاع إبليس، فأصبح من الظالمين. وبقي آدم مئة سنة لا يضحك أبدا.
وبعد مقتل هابيل بخمسين سنة ولد شيث بن آدم، وكان عمر آدم عندما ولد شيث مئة وثلاثون سنة. وقد شب شيث صالحا تقيا، وأصبح نبيا بعد أبيه آدم.
وعندما أتى طوفان نوح أغرق جميع ذرية آدم بمن فيهم ذرية قابيل، ولم ينج من الطوفان إلا ذرية شيث عليه السلام.
العبرة من القصة
من يعص الله تعالى ويعص والديه يحل عليه غضب الله سبحانه وتعالى وعلى ذريته في الدنيا والآخرة. ومن يطع الله تعالى ويطع والديه في رضا الله تعالى يحل عليه رضا الله وعلى ذريته في الدنيا والآخرة. ومن ارتكب ذنبا لم يكن موجودا من قبل كمن يتفنن في تعذيب الأبرياء، ومن يتفنن في اختراع المهلكات والمؤذيات، يكون عليه إثمه وإثم من عمل به إلى يوم القيامة.