أبو الوفا علي بن عقيل، شيخ الحنابلة في بغداد، ولد سنة (٤٣١هـ)، وتوفي سنة (٥١٣هـ). حكى لأصحابه في بغداد في أحد الأيام هذه الحكاية، قال: كنت شاباً فقيراً، أعيش من عمل يدي، وأتردد على علماء بغداد لأتعلم الفقه، وأحكام الشرع. وفي إحدى السنين سمعت بأن قافلة الحجاج تستعد لمغادرة بغداد إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة لأداء فريضة الحج، وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتاقت نفسي إلى الحج، ولكنني شاب فقير، لا أملك أجرة القافلة، ولا مصروف الحج، فحزنت كثيراً، وجلست في المسجد حزيناً باكياً، يائساً. فرآني شيخي الذي أتعلم عنده على هذه الحالة، فسألني عما بي، فذكرت له اشتياقي إلى الحج، ولكنني فقير لا أملك أجرة القافلة ولا مصروف الحج، وقافلة الحجاج ستغادر بغداد بعد بضعة أيام إلى الحجاز؛ فهون شيخي علي الأمر وقال لي: في هذه القافلة تاجر غني صديق لي، سوف أكلمه ليأخذك معه، على أن تخدمه طوال الطريق.
رحلة الحج ولقاء الكعبة
وهكذا يسر لي المولى أداء فريضة الحج، وكان الطريق طويلاً، والرحلة شاقة، تستمر أكثر من شهر على ظهور الجمال أو البغال، أو مشياً على الأقدام، حتى نصل إلى مكة المكرمة.
ووصلنا إلى مكة المكرمة في شهر ذي القعدة، فاستأجر التاجر الذي أخدمه بيتاً وضعنا فيه متاعنا، ثم ذهبنا إلى الحرم لكي نطوف حول الكعبة المشرفة طواف القدوم. وعندما رأيت الكعبة صرت أدعو الله تعالى، لأن الدعاء مستجاب عند رؤيتها، وسعينا بين الصفا والمروة بعد الطواف، ثم عدنا إلى البيت لكي ننام ونستريح.
وفي ثامن ذي الحجة ذهبنا إلى منى وبتنا بها، وفي اليوم التاسع صعدنا إلى جبل عرفات، ووقفنا هناك، حتى دخل الليل، فذهبنا إلى المزدلفة ونمنا بها حتى الفجر، فذهبنا إلى منى ورمينا جمرة العقبة، ثم طفنا حول الكعبة مرة ثانية، ثم حلقنا شعرنا وتحللنا.
إيجاد العقد الثمين
وبعد انتهاء أيام منى، أراد التاجر الذي أخدمه أن يسافر مع القافلة إلى المدينة المنورة لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يعودون بعدها إلى بغداد، فطلبت منه أن يسمح لي بالبقاء في مكة المكرمة لكي أجاور حول الكعبة بضعة أشهر، وأسمع من علماء مكة وفقهائها ومحدثيها، فسمح لي. ففرحت بذلك كثيراً.
وكنت أعمل في مكة المكرمة: أحمل الأثقال وأسقي الماء، لكي أستطيع أن أعيش وأصابني تعب شديد وجوع كثير، وكنت أستيقظ في كل ليلة قبل الفجر بساعة أو ساعتين، فأذهب إلى الحرم لكي أطوف حول الكعبة، وأصلي إلى أن يطلع الفجر. وفي إحدى الليالي، بينما كنت ذاهباً إلى الحرم، عثرت رجلي بكيس صغير، فأخذته بيدي وعدت به إلى البيت، وأشعلت شمعة، ونظرت إليه فوجدته من الحرير الأخضر الفاخر، و حللته فوجدت فيه عقداً من اللؤلؤ الغالي الثمن، حباته كبيرة متناسقة تلمع في جوف الليل، كما تلمع النجوم في السماء؛ فأعدت العقد إلى الكيس، وخبأته في مكان أمين، وأسرعت بالذهاب إلى الحرم قبل أن تفوتني صلاة الصبح فيه.
صراع الضمير
وبعد الصلاة وقف رجل من المصلين وبيده كيس صغير، وقال:
لقد ضاع مني عقد من اللؤلؤ، من يرده إلي له هذا الكيس فيه خمسمئة دينار، حلالاً زلالاً.
فلم يرد عليه أحد، وسكت أنا أيضاً، وذهبت إلى البيت. وطوال النهار صار الشيطان ونفسي الأمارة بالسوء يحدثانني ويقولان: هذا رزق ساقه الله تعالى إليك كي تستعين به على المجاورة والعيش في مكة المكرمة سنين طويلة، ولكي تستريح من حمل الأثقال وسقي الماء، وتتفرغ لحضور مجالس العلماء والفقهاء والاستماع إليهم.
ولكن إيماني وضميري كانا يعترضان على ذلك، ويقولان: كيف تأخذ المال الحرام؟! وكيف تستعين على أخذ العلم والفقه بالمال الحرام؟ وكيف تنتظر من الله تعالى أن يوفقك ويساعدك، وأنت تصر على أخذ العقد وهو ليس لك؟! كما أنك تعلم أن كل لحم ينبت في الإنسان من أكل الحرام سوف تحرقه النار، هذا العقد ليس لك، وقد عرفت صاحبه، فإياك أن تأخذه، وأنت تعلم أن الحسنة بمكة المكرمة بمئة ألف حسنة، والسيئة كذلك فيها بمئة ألف سيئة، فإذا رددت العقد إلى صاحبه كسبت مئة ألف حسنة، وهذا أجر عظيم، وإذا أخذته كان عليك مئة ألف سيئة، وهذا ذنب كبير، سوف يدخلك نار جهنم، والعياذ بالله تعالى.
لذلك قررت أن أرد العقد إلى صاحبه في اليوم التالي، لكي أكون من المحسنين الذين لا يضيع الله تعالى أجرهم: ﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
إعادة الأمانة
وفي اليوم الثاني ذهبت إلى صلاة الفجر في المسجد الحرام، وبعد الصلاة وقف صاحب العقد وصاح:
لقد ضاع مني عقد من اللؤلؤ ومن وجده ورده إلي، له الأجر والثواب من الله تعالى، وله هذا الكيس، فيه خمسمئة دينار حلالاً زلالاً.
فقمت وقلت له:
عقدك عندي اذهب إلى البيت لأرده إليك.
فذهب معي، وفي الطريق سألته عن صفات الكيس الذي فيه العقد، كما سألته عن صفات العقد وعدد حباته ولون خيطه، فكان جوابه مطابقاً لصفات الكيس والعقد، وتأكدت أن العقد عقده. وفي البيت أعطيته العقد فلما رآه قال:
هذا هو عقدي والله، جزاك الله تعالى خيراً، وأعطاني كيس الدنانير.
ولكنني تذكرت أنه في المذهب الحنبلي لا يجوز أخذ مكافأة على رد الأمانة، لذلك رددت الكيس إليه وقلت له:
أنا أطلب الأجر والثواب من الله وحده، ولا يجوز أن آخذ على رد الأمانة شيئاً.
وحاول كثيراً أن يعطيني ولو شيئاً من الدنانير، ولكنني رفضت، وأخذ عقده وانصرف.
ونمت أنا في ذلك اليوم ملء عيوني مرتاح البال، مطمئن الضمير، وكأن حملاً ثقيلاً قد انزاح عن صدري.
غرق ونجاة
وبعد أن أمضيت بضعة أشهر في مكة المكرمة، ذهبت خلالها إلى المدينة المنورة حيث زرت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عدت إلى مكة المكرمة، رأيت جماعة من تجار العراق يريدون السفر إليه عن طريق البحر، فسافرت معهم إلى جدة، وركبنا هناك سفينة متجهة إلى العراق. وسارت الأمور في الأيام الأولى على ما يرام، ثم هبت الريح واشتدت، وهاج البحر وماج، وتلاطمت الأمواج، وصارت السفينة تعلو وتهبط وتميل يميناً وشمالاً، وتتقاذفها الأمواج، ونحن ندعو، ونستغيث، ونرجو الله تعالى أن يخلصنا من هذا البلاء الشديد. ثم أتت موجة عالية كالجبل قلبت السفينة رأساً على عقب، فغرق الرجال وضاعت الأموال، وتعلقت أنا بلوح من الخشب وجدته أمامي، وصارت الأمواج تسوقني أمامها مدة يومين إلى أن ألقتني على ساحل إحدى الجزر، وأنا في الرمق الأخير من شدة الخوف والجوع والعطش.
الحياة الجديدة
ولما رآني أهل تلك الجزيرة حملوني وأسعفوني، وسقوني وأطعموني، فعادت إلي قوتي وعافيتي، وكان في الجزيرة مسجد واحد فقط، فسكنت فيه. ولما رآني أهل الجزيرة أحفظ القرآن طلبوا مني أن أصلي فيهم إماماً، وقالوا:
إن إمام مسجدهم، قد حج في هذا العام، وبعد عودته من الحج مرض وتوفي إلى رحمة الله تعالى وليس عندهم أحد غيره يحفظ القرآن ليصلي بهم إماماً.
لذلك صرت أصلي إماماً بهم. ولما رأوني أحسن الكتابة والقراءة أيضاً طلبوا مني أن أعلم صبيانهم الكتابة والقراءة، وقراءة القرآن، وصاروا يعطونني كثيراً من الأموال.
وفي أحد الأيام أتاني عقلاء الجزيرة وقالوا لي:
يا شيخ، نحن ما عدنا نستطيع الاستغناء عنك؛ من أجل إمامتنا في الصلاة، وتعليم صبياننا القراءة والكتابة وقراءة القرآن أفلا تتزوج عندنا، ويستقر بك المقام في جزيرتنا؟
فقلت لهم:
ومن أتزوج؟
قالوا:
إمامنا السابق توفي وترك بنتاً وحيدة ليس لها أحد في هذه الجزيرة نزوجك منها.
فقبلت منهم ذلك. وعقدنا عقد الزواج، وحددنا يوماً للزواج، وفي اليوم الموعود، أتوا بالعروس إلى بيتي في المسجد، ودخلت عليها، فوجدتها صبية، شابة، جميلة.
العقد يعود لصاحبه
ولكن الذي استرعى نظري منها هو عقد كانت تلبسه في عنقها، فهو يشبه كثيراً العقد الذي وجدته في مكة المكرمة، والذي رددته إلى صاحبه دون مقابل؛ وصرت أديم النظر إلى العقد، فحزنت وبكت، وقالت:
تنظر إلى العقد ولا تنظر إلي؟!
فقلت لها:
أريد أن أسألك: من أين لك هذا العقد؟
قالت:
عندما ذهب أبي إلى الحج في هذه السنة؛ اشتراه من مكة المكرمة.
فقلت لها:
ما صفات أبيك؟
فوصفته لي، فكانت صفاته مطابقة لصفات صاحب العقد الذي وجدته في مكة المكرمة، عند ذلك تأكدت أن العقد الذي تلبسه هي العقد الذي وجدته في مكة المكرمة نفسه، وأن صاحب العقد الذي قابلته في مكة المكرمة هو أبو زوجتي. وعند ذلك قصصت عليها قصتي، وكيف أنني وجدت هذا العقد في مكة المكرمة في كيس من الحرير الأخضر، وكيف رددته إلى صاحبه دون أن آخذ منه شيئاً.
فاندهشت وبكت، وذهبت وأحضرت كيس الحرير الأخضر الذي كان العقد فيه، فقلت لها:
هذا هو والله الكيس نفسه، إن هذا لأمر عجيب هذا جزاء التقوى والإحسان وطاعة الله، فقد أنقذني من الموت غرقاً، وأرسلني إلى هذه الجزيرة بالذات، وزوجني منك بالذات، لكي يرد إلي العقد بالحلال بعد أن أبيت أن آخذه بالحرام.
فقالت:
والله إن أبي كان يذكرك دائماً، ويثني عليك كثيراً، ويقول: ما رأيت رجلاً أكثر تقوى ومروءة منه، وكان يدعو الله أن يجعلك زوجاً لي، وها قد استجاب الله الدعاء؛ فهنيئاً لنا ورحمة الله تعالى على والدي.
عودة إلى بغداد
وعشت مع زوجتي بضع سنين عيشة هنية سعيدة، إلى أن حملت، وحان موعد الولادة، فتعسرت ولادتها، ولم يكن في الجزيرة طبيب ولا طبيبة ولا مستشفى، وإنما كانت توجد قابلة (داية) عجوز لا تستطيع أن تصنع شيئاً، وبعد عذاب كثير وألم شديد وضعت مولوداً ذكراً، ولكنها توفيت على أثر الولادة، فحزنت عليها حزناً شديداً، فقد كانت نعم العون لي في غربتي، وكانت نعم الزوجة والرفيقة.
وبعد بضعة أيام أخرى توفي المولود أيضاً، فازداد حزني وهمي وكربي وكرهت الجزيرة وما فيها، وطلبت من أهلها أن يسمحوا لي بالسفر إلى بلدي بغداد، فتمنعوا في البدء، ثم وافقوا بعد أن رأوا شدة حزني وكربي، ووصلت أثناء ذلك إلى الجزيرة سفينة مسافرة إلى البصرة في العراق، فجمعت أمتعتي، وودعت أهل الجزيرة، وسافرت مع السفينة إلى البصرة، وأخذت عقد اللؤلؤ معي بعد أن أصبح ملكي وحدي.
وبعد شهر من السفر في البحر، وصلنا بسلامة الله تعالى إلى البصرة واشتريت دابة من البصرة أوصلتني إلى بغداد، حيث بعت عقد اللؤلؤ بعشرة آلاف دينار، وهكذا رفضت خمسمئة دينار لأجل الله تعالى فعوضني عنها بعشرة آلاف دينار، ساعدتني على إكمال دراستي وتعلمي، إلى أن أصبحت شيخ الحنابلة في بغداد كما ترون، وما ترونه معي من ثروة الآن، هو من بركة ذلك العقد. والحمد لله تعالى.
العبرة من القصة
الأمانة حمل ثقيل، على الإنسان أن يؤديها إلى صاحبها غير منقوصة لكي يكسب رضا الله، فيفوز بالتوفيق والنجاح في الدنيا، وبالسعادة والثواب في الآخرة.