كان يا ما كان يا قارئين يا كرام بعد الصلاة والسلام على خير الأنام، وصحابته الكرام. كان في الزمن القديم عابد من بني إسرائيل اسمه (جريج)، بنى لنفسه صومعة من الطين خارج البلد، وصار يتعبد الله فيها. كان يأكل مما يزرعه في صومعته من الخضروات، ويشرب من نبع قريب، وكانت له أم تأتي لزيارته كل بضعة أيام فتجلس معه بعض الوقت، ثم تعود إلى بيتها في البلد.
ومضى على ذلك سنوات عديدة، وفي أحد الأيام أتت أمه لزيارته، وصارت تصيح: “يا جريج افتح الباب، يا جريج افتح الباب.” ولكن جريجا كان يصلي، فلم يقطع صلاته ليفتح الباب، وانتظر حتى انتهى من صلاته فنزل وفتح الباب، فوجد أمه ذهبت لأنها لم تكن تعلم أنه كان يصلي.
وفي اليوم الثاني أتت أمه أيضا وصاحت: “يا جريج افتح الباب، يا جريج افتح الباب.” ولكن جريجا لم يفتح الباب؛ لأنه كان يصلي وأمه لا تعلم بذلك، وعندما انتهى من صلاته فتح الباب، فوجد أمه قد ذهبت.
في اليوم الثالث حصل الشيء نفسه أيضا، عند ذلك غضبت الأم، لأنها لم تعلم أن ابنها كان يصلي، فدعت عليه وقالت: “اللهم لا تمت جريجا حتى تبتليه بالنساء الساقطات.” واستجاب الله دعاءها، لأن جريجا كان يصلي صلاة النفل – أي: السنة – لا الفرض، وطاعة الوالدين واجبة؛ فهي مقدمة على السنة، لذلك كان على جريج أن يقطع صلاته ويفتح الباب لأمه.
مؤامرة لإسقاط العابد الصالح
وكان بنو إسرائيل يتذاكرون أحوال جريج في مجالسهم، ويمدحونه ويقولون عنه: إنه عابد تقي صالح لم يرتكب ذنبا قط. فقامت امرأة جميلة ولكنها ساقطة من وسطهم وقالت: “ماذا تعطونني إذا أنا فتنت لكم جريجا وأفسدت عليه عبادته؟”
فقالوا: “نعطيك ألف دينار.”
فاستيقظت في اليوم التالي في الصباح، فتزينت وتجملت ولبست ثيابا قصيرة مكشوفة، وذهبت إلى صومعة جريج وطرقت عليه الباب، فأطل عليها من النافذة وقال لها: “ماذا تريدين؟”
قالت: “افتح لي الباب، أريد أن أسألك سؤالا دينيا.”
ولكنه عندما رآها على هذه الهيئة من الزينة والتكشف أعرض عنها، وقال لها: “اذهبي واسألي غيري.” عصمه الله من الشيطان بفضل تفانيه في طاعته. ثم كررت المرأة محاولتها في الأيام التالية، ولكنه كان يعرض عنها ولا يلتفت إليها.
وفي المرة الأخيرة عندما يئست من جريج مرت أثناء عودتها إلى البلدة على راع يرعى الغنم فجلست معه ونامت معه، فحملت منه. وبعد تسعة أشهر وضعت غلاما، فحملته وأتت به إلى مجلس بني إسرائيل وقالت لهم: “هذا الغلام حملت به من جريج الذي تمدحونه وتقولون عنه إنه عابد صالح، وأنا أطالبكم الآن أن تعطوني ألف الدينار التي وعدتموني بها.”
اتهام باطل وعقاب عاجل
عند ذلك اندهش بنو إسرائيل من هذا الخبر، وذهبوا إلى الملك وأخبروه بما فعل جريج. فغضب الملك عليه غضبا شديدا، وأمر جنوده أن يأتوه بجريج، وأن يهدموا صومعته.
فذهب الجنود وسحبوا جريجا من صومعته، ثم هدموها إلى الأرض، وأخذوا جريجا إلى الملك وهم يضربونه ويسبونه.
وعندما وصل جريج إلى الملك قال له: “لماذا تفعلون بي هذا؟ ما هو الذنب الذي أذنبته لكي تعاملوني هذه المع-املة؟”
فقال له الملك: “ألا تدري ماذا فعلت؟! لقد اعتديت على امرأة من بني إسرائيل فحملت منك ووضعت غلاما، وأنت تتظاهر بالعبادة والصلاح!”
فقال جريج: “أين هذه المرأة؟”
فجاؤوا بها، ولما رآها جريج قال: “هذه المرأة كاذبة، فقد حاولت الدخول إلى صومعتي عدة مرات، ولكنني منعتها من ذلك.”
فقالت المرأة: “كلا إني حملت منه، والغلام الذي وضعته هو ابنه.”
كرامة جريج وبراءته
فقال جريج: “أين الغلام؟”
فأتوا به، وهو لا يزال ابن بضعة أيام. وعندما رآه جريج قال: “دعوني أصلي ركعتين.”
فتركوه، فصلى، ثم توجه إلى الغلام ونخسه بإصبعه في بطنه، وقال: “من أبوك يا غلام؟”
فنطق الغلام بقدرة الله وقال: “أبي الراعي.”
وكانت هذه كرامة لجريج أكرمه الله تعالى بها بفضل عبادته له وطاعته له.
وعندما سمع الملك وبنو إسرائيل ذلك انكبوا على جريج يعتذرون إليه، ويقبلون يديه، ويطلبون منه أن يغفر لهم الإساءة التي أساؤوها إليه. وأمر الملك أن يعيدوا بناء صومعة جريج من الذهب، ولكن جريجا رفض ذلك وقال: “لا تعيدوا بناءها من الذهب، بل أعيدوا بناءها من الطين كما كانت.”
وبعد ذلك ذهب جريج إلى أمه وقبل يديها، وقال لها: “لقد كنت أصلي عندما أتيت إلى صومعتي وناديتني.” فرضيت عنه ودعت له.
وعاد بعد ذلك إلى صومعته كما كان.
العبرة من القصة
طاعة الوالدين واجبة وثوابها عظيم على شرط ألا يكون في طاعتهم معصية الله تعالى. والله لا يتخلى عن عباده المطيعين الصالحين، وعلى الرجال أن يبتعدوا عن الاختلاط بالنساء فالنساء فتنة للرجال والرجال فتنة للنساء.