بعد أن خرج سيدنا موسى مع بني إسرائيل من مصر، تاهوا في صحراء سيناء، وبقوا فيها أربعين سنة؛ لأنهم لم يرضوا أن يدخلوا فلسطين كما طلب منهم موسى. وأثناء ذلك حدثت هذه القصة: رجل من بني إسرائيل اسمه (عاميل) وكان غنيا عنده مال كثير ولكن ليس له ولد، وكان له ابن أخ فقير لا وارث له سواه، وكان الفقير ينتظر موت عمه الغني بفارغ الصبر لكي يرثه ويأخذ ماله كله ويصبح غنيا مثله. ولكن الغني لم يمت، فالأعمار بيد الله تعالى. فاحتار الفقير ماذا يصنع؟! فهو يريد أن يصبح غنيا ليتمتع بالمال ويستريح من العمل والتعب، وعمه الغني لا يزال بصحة جيدة وإن كان قد أصبح شيخا كبيرا.
وأخيرا وسوس له الشيطان أن يقتل عمه ويتخلص منه ما دام أنه لم يمت بعد، لذلك أتى في إحدى الليالي إلى بيت عمه الغني وطرق عليه الباب، فخرج عمه وسأله: “ماذا تريد؟”
قال: “تعال معي أريد أن أكلمك في بعض الأمور.”
فذهب معه، وتمشيا في الشوارع معا حتى وصلا إلى شارع بعيد مظلم، فجذب الشاب الفقير عمه الغني الشيخ الكبير فأوقعه على الأرض وذبحه بسكين كانت معه ثم حمله وألقاه في مكان بعيد.
جريمة غامضة وطلب للعدالة
وفي الصباح وجد بنو إسرائيل (عاميل) مقتولا في مكان بعيد، وعندما أخبروا ابن أخيه الفقير صار يبكي ويضرب وجهه، ويصيح: “من قتل عمي؟ سأنتقم منه، سأقتله.” وذهب إلى سيدنا موسى واشتكى إليه وطلب منه البحث عن قاتل عمه.
بحث سيدنا موسى عن القاتل فلم يهتد إليه، فاحتار في أمره، وأخيرا دعا ربه وطلب منه أن يدله على القاتل، فقال له ربه: “اذبحوا بقرة، واضربوا القتيل بشيء من هذه البقرة، فإنه يخبركم عند ذلك من قتله.”
وعندما أخبر موسى عليه السلام بني إسرائيل بذلك تعجبوا وقالوا: “بقرة! وما شأن البقرة بالقتيل؟!” وقالوا له: “أتضحك منا وتستهزئ بنا؟!”
فقال: “أعوذ بالله أن أفعل ذلك، ولكن هذا ما أخبرني به ربي.”
ولو أنهم ذبحوا في ذلك الوقت أي بقرة كانت وضربوا القتيل بشيء منها لأخبرهم عن القاتل وقضي الأمر. ولكنهم تشددوا وصاروا يسألون ويستفهمون، فشدد الله عليهم.
فقالوا لموسى: “إذا كان ربك يطلب ذلك، فادعه يبين لنا ما هي هذه البقرة؟ ما صفاتها؟”
فدعا ربه، فقال له: “هي بقرة متوسطة في العمر ليست كبيرة في العمر وليست صغيرة، ولم تحمل بعد.”
أسئلة بني إسرائيل تشدد الأمر عليهم
فلم يكتف بنو إسرائيل بذلك، بل قالوا لسيدنا موسى: “ادع ربك يبين لنا ما لونها؟”
فدعا ربه، فقال له: “هي بقرة صفراء، إذا وقعت الشمس عليها لمع جلدها كما يلمع الذهب الأصفر، فهي تسر من ينظر إليها وتعجبه.”
ولكنهم لم يكتفوا بذلك وقالوا لسيدنا موسى عليه السلام: “إن هذه الصفات موجودة في كثير من الأبقار، فادع ربك يبين ما هي البقرة التي يريدها؟ وإن شاء الله سنهتدي إليها.”
وهنا عندما اعتمدوا على الله، بينها لهم فقال: “هي بقرة لا تحرث الأرض ولا تسقي الزرع، لا عيب فيها، وجلدها كله أصفر، ليس فيه أية بقعة غير صفراء.”
عند ذلك قالوا لموسى: “لا توجد في بني إسرائيل إلا بقرة واحدة بهذه الصفات.”
بقرة واحدة بهذه الصفات كانت عند فتى من بني إسرائيل، صالح تقي، بر بوالديه، أراد الله أن يكافئه على بره بوالديه، فشدد على بني إسرائيل لكي يجعلهم يشتروا بقرته بملء جلدها ذهبا.
قصة الفتى الصالح والبقرة المذهبة
وهذه قصتها: كان رجل من بني إسرائيل صالحا تقيا، وله زوجة صالحة تقية، له منها ولد واحد ربوه على الصلاح والتقوى، وكان عند الرجل عجلة صغيرة صفراء فاقع لونها، تسر الناظرين. وأدرك الموت الرجل، فقال لزوجته: “احفظي هذه العجلة لولدي حتى يكبر، لا تفرطي فيها، فإذا كبر باعها واستفاد من ثمنها. ودعوها ترعى في الغابة القريبة منا إلى أن تكبر ويكبر ولدنا أيضا.”
وتوفي الرجل الصالح، وصارت زوجته ترسل البقرة إلى الغابة لترعى كل يوم. وكبر الولد وصار فتى، وكان صالحا تقيا، برا بأمه، لا يخالفها في شيء مطلقا. كان يعمل في النهار ويقسم ليله ثلاثة أقسام: قسم للصلاة، وقسم للنوم، وقسم للجلوس عند رأس أمه يرعاها ويحرسها، وينفذ طلباتها.
اختبار الطاعة وثمن لا يقدر بمال
لذلك أراد الله أن يكافئه في الدنيا، بالإضافة إلى مكافأته في الآخرة على طاعته لأمه وبره بها. قالت له أمه ذات يوم: “إن أباك خلف لك هذه العجلة وقال: إذا كبر ابني فليبعها وينتفع بثمنها. وقد أصبحت العجلة بقرة جميلة الآن، انظر إليها كيف تلمع في الشمس كأنها الذهب، حتى سماها الناس المذهبة. اذهب يا بني فبعها، ولكن لا تبعها بأقل من ثلاثة دنانير، ولا تمض البيع حتى تستشيرني.”
فأخذ الفتى البقرة وذهب بها إلى السوق ليبيعها، فأرسل الله ملكا في صورة رجل ليختبر طاعته لأمه، لقيه على الطريق، فسأله: “هل هذه البقرة للبيع؟”
فأجابه الفتى: “نعم إنها للبيع.”
فقال له: “كم تريد ثمنها؟”
فأجابه: “إنني لا أبيعها بأقل من ثلاثة دنانير، ولا أمضي البيع حتى أستشير أمي.”
فقال له: “أنا أشتريها بستة دنانير ولكن دون استشارة أمك.”
فقال له الفتى: “لو أعطيتني بقدر وزنها ذهبا، لا أبيعك إياها دون استشارة أمي.”
وعاد الفتى إلى البيت وحكى لأمه ما قاله له الرجل. فقالت له أمه: “اذهب بها غدا إلى السوق، وإذا وجدت الرجل نفسه فقل له: أنا أبيعك إياها بستة دنانير كما قلت، ولكن لا أمضي البيع حتى أستشير أمي.”
فذهب الفتى في اليوم الثاني بالبقرة إلى السوق، ووجد الرجل نفسه فقال له: “أنا أبيعك إياها بستة دنانير كما قلت، ولكنني لا أمضي البيع حتى أستشير أمي.”
فقال له الرجل: “أنا أشتريها منك باثني عشر دينارا، ولكن دون استشارة أمك.”
فقال له الفتى: “لو أعطيتني وزنها ذهبا، لا أبيعها إلا بعد استشارة أمي.”
نصيحة سماوية وثمن باهظ
وعاد الفتى إلى البيت وحكى لأمه ما قاله له الرجل، وما قاله هو للرجل. فقالت له أمه: “يا بني! إني أظن أن هذا الرجل ملك أرسله الله ليختبر طاعتك لأمك، فاذهب غدا إلى السوق، وإذا وجدته، قل له: أريد أن أستشيرك: هل تنصحني ببيع هذه البقرة الآن أم لا؟”
فذهب الفتى في اليوم التالي إلى السوق، فوجد الرجل نفسه، فسأله: “هل تنصحني أن أبيع هذه البقرة الآن أم لا؟”
فأجابه: “يا بني! أنت فتى تقي صالح، بار بأمك، طائع لها، وهي راضية عنك، وإن الله يريد أن يكافئك على ذلك، لذلك أنصحك ألا تبيعها الآن، وسيشتريها منك موسى لبني إسرائيل؛ فلا تبعه إياها إلا بملء جلدها ذهبا!” واختفى الرجل.
وعاد الفتى إلى البيت وحكى لأمه ما حدث له مع هذا الرجل، فقالت له أمه: “ألم أقل لك إن هذا الرجل ملك أرسله الله ليختبر طاعتك لأمك؟! احبس البقرة في البيت ولا تبعها الآن.”
وقال بنو إسرائيل لموسى: “إن البقرة التي وصفتها لنا لا توجد في بني إسرائيل إلا عند فتى تقي صالح بر بأمه.”
فقال لهم سيدنا موسى: “ائتوني به هو والبقرة لأنظر إليها.”
فذهبوا إلى الفتى وقالوا له: “إن موسى يطلبك أنت وبقرتك لينظر إليها.”
فاستشار الفتى أمه، فقالت له: “يا بني خذ البقرة واذهب إلى سيدنا موسى، ولا تبع البقرة إلا بملء جلدها ذهبا. فإذا دفعوا لك ذلك فبعها دون أن تستشيرني.”
شراء البقرة وكشف القاتل
وذهب الفتى بالبقرة إلى موسى عليه السلام، ونظر سيدنا موسى عليه السلام إلى البقرة فوجدها مطابقة للصفات التي ذكرها الله: بقرة لا صغيرة ولا كبيرة، لم تحمل ولم تلد بعد، لا تحرث الأرض ولا تسقي الزرع، صفراء فاقع لونها، كالذهب، تسر الناظرين.
عند ذلك قال سيدنا موسى عليه السلام للفتى: “هل تبيع هذه البقرة يا فتى؟ وبكم تبيعها؟”
قال الفتى: “إنني أبيعها بملء جلدها ذهبا، ولا أبيعها بأقل من ذلك، هكذا قالت لي أمي، وأنا لا أخالفها مطلقا.”
فاستشار سيدنا موسى بني إسرائيل، لأن الثمن كبير جدا، فرضي بنو إسرائيل به، لأنهم يريدون أن يعرفوا من قتل (عاميل) الغني. فقال لهم سيدنا موسى: “اجمعوا إذن ثمنها للفتى.”
فجمعوه. وذبحوا البقرة وسلخوا جلدها، وملؤوها ذهبا وأعطوه للفتى، فعاد به إلى أمه وقد أصبح من كبار الأغنياء بفضل طاعته لأمه وبره بها.
وأخذ سيدنا موسى فخذ البقرة الأيمن ولسانها، وضرب بهما القتيل، فعاد حيا وقام على رجليه والدم ينفر من عنقه، وقال: “قتلني ابن أخي الفقير، وارثي الوحيد.” ثم وقع ميتا مرة أخرى كما كان.
فقبض موسى على الرجل الفقير، فاعترف بأنه قتل عمه لأنه استبطأ موته، ويريد أن يرثه ويأخذ ماله. فقتله سيدنا موسى جزاء فعله هذا.
وهكذا طمع الرجل الفقير بمال عمه الغني فقتله، ولكنه لم يستفد شيئا، بل خسر المال وفقد حياته، وحلت عليه لعنة الله. وأطاع الفتى الصالح أمه ولم يخالفها أبدا، وكان برا بها، فكافأه الله بأن جعله غنيا في الدنيا، وفي الآخرة له ثواب عظيم. وتشدد بنو إسرائيل فصاروا يسألون: ما لون البقرة؟ وما عمرها؟ وما صفاتها؟ فشدد الله عليهم بأن جعلهم يدفعون ملء جلدها ذهبا، ولو أنهم ذبحوا منذ البدء أية بقرة لكانت كفتهم.
العبرة من القصة
القناعة كنز لا يفنى والباطل يؤدي إلى المهالك، ويسروا ولا تعسروا، وسهلوا ولا تتشددوا، وطاعة الوالدين سبب للنجاح في الدنيا ولحسن الثواب في الآخرة.