كان يا ما كان يا قارئين يا كرام بعد الصلاة والسلام على النبي خير الأنام، وصحابته الكرام. كان في زمن الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، أي منذ أكثر من ألف وثلاثمئة سنة، وال على الجزيرة الشامية، يدعى عكرمة الفياض، مركزه في مدينة الرقة، وكان كريماً يحب الكرماء، وشهماً يحب الأوفياء.
وفي إحدى الليالي، بينما كان يتحدث هو وأصحابه، قال لهم:
ما لي لا أرى بينكم صاحبنا خزيمة بن بشر؛ لقد صار له مدة طويلة منقطعاً عنا لا يزورنا؟ هل هو مريض فنعوده، أم مسافر فننتظره؟
فأجابه أحد الحاضرين قائلاً:
إنه والله ليس مريضاً ولا مسافراً، ولكنه مفلس، قد أفلست تجارته، وكثرت ديونه، لذلك حبس نفسه في بيته لا يخرج منه، لكي لا يرى أحداً ولا أحد يراه خجلاً من الناس؛ فإن الدائنين إذا رأوه تعلقوا به، وليس معه ما يسدد ديونه، وهو ينتظر الفرج من الله.
فقال الوالي عكرمة:
لقد أحزنتني والله بقولك هذا، فإن صاحبنا خزيمة كان شهماً كريماً، وهو لا يستحق هذا البلاء والعذاب.
الفرج من حيث لا يحتسب
كان خزيمة بن بشر هذا تاجراً كبيراً في مدينة الرقة، وكان كريماً، يتصدق على الفقراء، ويدين التجار المفلسين والمعسرين؛ لكي يجددوا تجارتهم، ثم تأخرت تجارته، وكثرت ديونه، وكان يطالب التجار بديونه فلا يؤدونها له، ويطالبه الدائنون بديونهم فيؤديها لهم؛ حتى أفلس ونفد ماله كله، فحبس نفسه في بيته لا يخرج منه لكي لا يرى أحداً ولا يراه أحد، خجلاً من الناس وهرباً من الدائنين، وجلس ينتظر فرج الله تعالى.
وفي تلك الليلة صارت زوجته تشكو وتلح في الشكوى، وتقول له:
إلى متى تحبس نفسك في البيت هكذا؟ لماذا لا تخرج وتعمل؟! ومن أين نأكل نحن وأولادنا؟! لقد نفد ما كان عندنا من المون، وبعنا جميع متاعنا، ولم يبق عندنا شيء، والأولاد يبكون من الجوع، فإلى متى هذه الحالة يا خزيمة؟! وأنت تعرف أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، ولا دراهم ولا دنانير.
فقال لها:
يا امرأة كيف أخرج والدائنون ينتظرونني على الباب؟! وماذا أقول لهم؟! إن الموت أهون علي من رؤيتهم!.. وإنني والله كنت محسناً للفقراء، مساعداً للمفلسين، ولن يضيعني الله.
وبينما كان هو وزوجته في هذا الكلام، وقد انتصف الليل، إذ سمعوا طرقاً على الباب، فتعجبوا من ذلك، من يطرق عليهم الباب في مثل هذه الساعة من الليل؟! ونهض خزيمة وذهب وفتح الباب، وإذا برجل ملثم يقف أمامه، يخفي وجهه باللثام حتى لا تظهر إلا عيناه، وبيده كيس، مده إليه.
وقال له:
خذ هذا المال، استعن به على وفاء ديونك، وتجديد تجارتك.
فتعلق به وقال له:
من أنت يرحمك الله تعالى، فقد كدت أينس والله من الفرج؟!
فقال له الرجل الغريب الملثم:
أنا جابر عثرات الكرام.
الصديق يتولى الولاية
وتركه وانصرف مختفياً في الظلام، وبقي خزيمة واقفاً مشدوهاً، إلى أن انتبه على نداء زوجته له، فأغلق الباب ودخل، وهو يقول:
أبشري يا امرأة، فقد جاء الفرج من الله تعالى، انظري هذا كيس مملوء مالاً.
قالت:
من أين هذا الكيس؟
قال:
من جابر عثرات الكرام.
قالت:
ومن جابر عثرات الكرام هذا؟ ما اسمه؟
قال:
لا أدري، فقد أعطاني الكيس وتركني واختفى في الظلام، ما أكرمك يا رب وما ألطفك، الحمد لك والشكر لك، فقد كدت أيس من فرجك.
جلس خزيمة وزوجته وفتحوا الكيس فوجدوه مملوءاً بالدنانير الذهبية، أفرغوا الدنانير على الأرض وعدوها فبلغت أربعة آلاف دينار، ففرح خزيمة بها فرحاً كبيراً، وقال لزوجته:
إنها تكفي لوفاء ديوني ولتجديد تجارتي.
وفي اليوم الثاني خرج من بيته منذ الصباح، فوفى ديونه، وفتح دكانه، وجدد تجارته. وبعد بضعة أيام قال لزوجته:
جهزيني للسفر إلى دمشق، فقد علمت أن سليمان بن عبد الملك قد تولى الخلافة فيها بعد أخيه الوليد، وهو صديق قديم لي، لذلك أريد أن أذهب لأهنئه بالخلافة.
وسافر خزيمة إلى دمشق، ومعه بعض الهدايا للخليفة، واستأذن في الدخول عليه فأذن له، وعندما دخل سلم على الخليفة وهنأه بالخلافة، وقدم له الهدايا التي معه فقال له الخليفة:
ما أبطأك عنا يا خزيمة؟ فقد تولينا الخلافة منذ مدة طويلة، وكنت أنتظر مجيئك بفارغ الصبر لكي أوليك على الجزيرة، فأنا لم أنس صداقتنا القديمة.
البحث عن جابر عثرات الكرام
عند ذلك حكى خزيمة للخليفة ما حدث معه، وكيف تأخرت تجارته وكثرت ديونه، وكيف حبس نفسه في بيته خجلاً من الناس وهرباً من الدائنين منتظراً الفرج من الله، وكيف طرق عليه الباب في إحدى الليالي رجل ملثم وأعطاه كيساً فيه أربعة آلاف دينار ذهباً، ولما سأله عن اسمه، قال له:
أنا جابر عثرات الكرام.
فقال له الخليفة سليمان بن عبد الملك:
لقد شوقتني إلى معرفة هذا الرجل، إنه والله شهم كريم، يستحق منا الجزاء والتكريم في الدنيا، مع ثواب الله تعالى في الآخرة، لذلك أطلب منك أن تبحث عنه وأن تأتيني به متى عرفته.
فقال له خزيمة:
السمع والطاعة، يا أمير المؤمنين.
وعندما أراد خزيمة بن بشر العودة إلى بلده كتب له سليمان بن عبد الملك كتاب الولاية على الجزيرة، مع عزل عكرمة الفياض عنها، وأمره أن يحاسب عكرمة، وإذا وجد عليه فضل أموال من أموال الخراج لم يؤدها إلى بيت المال أن يطالبه بها، وإذا لم يدفعها أن يحبسه إلى أن يدفعها، وعندما ودعه قال له:
لا تنس أن تبحث عن جابر عثرات الكرام، وأن تأتيني به متى وجدته.
فقال له خزيمة:
السمع والطاعة يا أمير المؤمنين.
وعاد خزيمة إلى بلده الرقة، وفي اليوم الثاني ذهب إلى ديوان الوالي عكرمة وسلم عليه، ودفع إليه كتاب الخليفة سليمان بن عبد الملك بعزله عن ولاية الجزيرة، وتولية خزيمة مكانه. وعندما قرأ عكرمة الكتاب قال:
السمع والطاعة لأمير المؤمنين.
وقام من مجلسه وأجلس خزيمة مكانه.
فقال له خزيمة:
أمرني أمير المؤمنين أن أحاسبك، وأن آخذ منك الأموال التي لا تزال بذمتك لبيت مال المسلمين.
قال عكرمة:
السمع والطاعة لأمير المؤمنين.
وعندما حاسبه خزيمة وجد عليه فضل أموال كثيرة مستحقة لبيت المال، فطالبه بها، فقال له:
ليس عندي شيء منها لأنني صرفتها كلها على فقراء المسلمين.
فقال له خزيمة:
إن أمير المؤمنين لا يقبل هذا الكلام، إما أن تدفع المال وإما أن تحبس.
قال عكرمة:
ولكن ليس عندي الآن مال أدفعه.
لذلك أمر الوالي الجديد خزيمة بحبس الوالي القديم عكرمة، فأخذوه إلى الحبس.
كشف الحقيقة غير المتوقعة
وفي اليوم نفسه أرسل خزيمة منادياً ينادي بين الناس:
من كان يعرف شيئاً عن جابر عثرات الكرام، فليخبر الوالي الجديد وله جائزة كبيرة.
ولكن لم يقدم أحد من الناس شيئاً عن جابر عثرات الكرام.
وكان جابر عثرات الكرام هو عكرمة الفياض، الوالي القديم نفسه. فإنه عندما سمع من أصحابه ما قالوه في تلك الليلة عن خزيمة، حزن كثيراً عليه، وعندما ذهب أصحابه إلى بيوتهم دخل إلى بيته، وفتش فيه فوجد عنده أربعة آلاف دينار، وضعها في كيس، حمله على ظهره وذهب إلى بيت خزيمة.
وعند ذلك شعرت امرأته به، فقامت من فراشها، وقفت تنتظر عودته خلف الباب. وعندما عاد تعلقت به وقالت له:
أين كنت؟! هل تزوجت امرأة غيري؟!
فحلف لها أنه لم يتزوج غيرها، ولكنها لم تقتنع وقالت له:
لا أتركك حتى تقول لي أين كنت؟
عند ذلك اضطر أن يقول لها: إنه علم بإفلاس صاحبه خزيمة وتراكم الديون عليه، لذلك حمل إليه أربعة آلاف دينار ليفي ديونه ويصلح أحواله، وأخبرها أنه أخفى شخصيته عن خزيمة، وقال له:
أنا جابر عثرات الكرام، وذلك لكي لا يحرج صاحبه، ولكي يكسب ثواب الصدقة الخفية، التي يكون صاحبها يوم القيامة في ظل الله، يوم لا ظل إلا ظله، وهذا ليس بالشيء القليل في يوم يكثر فيه الجوع والعطش والعرق والعذاب.
وعندما علمت زوجة عكرمة بحبسه ذهبت إليه في سجنه، وقالت له:
كيف يحبسك الوالي وأنت جابر عثرات الكرام، الذي أنقذته من محنته التي كان فيها؟!.. لذلك سأخبره أنك أنت جابر عثرات الكرام.
فقال لها:
إياك أن تفعلي ذلك، وتضيعي علي ثواب الصدقة الخفية، وإن الله لن يضيعنا.
العودة والمكافأة
ومضت بضعة أشهر، وعكرمة الفياض في الحبس، وزوجته تبيع من متاع بيتهم لكي تعيش هي وأولادها حتى لم يبق عندهم شيء للبيع، فذهبت إلى زوجها في الحبس وقالت له:
ماذا تريدني أن أصنع الآن؟! ومن أين نأكل أنا وأولادي ولم يبق في بيتنا شيء نبيعه؟! ألا أذهب إلى الوالي وأخبره أنك أنت جابر عثرات الكرام؟
فتوسل إليها أن تصبر ولا تفعل، وسيفرجها الله تعالى عليهم. ولكنها لم تقتنع وخرجت من سجن زوجها إلى ديوان الوالي، وقالت للحاجب:
أخبر الوالي أن في الباب امرأة تعرف جابر عثرات الكرام.
وعندما أخبر الحاجب الوالي بذلك قال له:
أدخلها بسرعة.
فأدخلها، وعندما مثلت بين يديه، سألها:
من هو جابر عثرات الكرام؟
فقالت:
هو الوالي القديم عكرمة الفياض الذي هو في حبسك الآن.
وقالت له:
إنه ذهب إليك في يوم كذا، وأعطاك كيساً صفاته كذا، فيه أربعة آلاف دينار.
وعندما تأكد خزيمة من شخصية جابر عثرات الكرام، ضرب جبينه بيده، كيف حبس جابر عثرات الكرام؟! كيف حبس صاحب أكبر فضل عليه؟! وقام من فوره وذهب مع زوجة عكرمة إلى حبسه، وفك قيده بيده، واحتضنه وهو يبكي ويعتذر إليه عما فعله به، وصحبه إلى بيته، وحمل إليه أربعة آلاف دينار من ماله الخاص، وقال له:
تجهز لنذهب سوية إلى أمير المؤمنين بدمشق.
وذهبا معاً إلى دمشق، وعندما دخلا على سليمان بن عبد الملك، قال لخزيمة:
لماذا عدت سريعاً إلينا هكذا؟
فأجابه:
لقد أتيتك بجابر عثرات الكرام كما أمرتني يا أمير المؤمنين.
قال:
أين هو؟ ومن هو؟
قال:
هذا هو، عكرمة الفياض الوالي السابق على الجزيرة.
فاستدعاه سليمان وأجلسه إلى جانبه وشكره على صنيعه مع خزيمة، وقال له:
لقد أسأنا إليك لأننا ما كنا نعرفك، والآن بعد أن عرفاك، فقد عيناك والياً على أذربيجان والجزيرة معاً، وعينا خزيمة والياً تحت إمرتك على الجزيرة.
ووصلهما وكتب لهما كتب الولاية، وأرسلهما إلى ولايتيهما.
العبرة من القصة
الصدقة الخفية تدفع بلايا كثيرة، والخير والمعروف لا يضيعان في الدنيا ولا في الآخرة.