في أحد الأيام اجتمع ثلاثة عميان متسولين مصادفة على باب أحد المساجد، وكانوا أصدقاء، فقال بعضهم لبعض: “اجلسوا قليلا لكي نتحدث ونتسامر.”
فجلسوا وجلس بجانبهم لص خبيث مغرم بسرقة العميان وأخذ يسترق السمع ويصغي لما يقولونه. وبعد أن تحدثوا قليلا عن أحوالهم وعملهم وعائلاتهم قال أحدهم للآخر: “أنت يا أبا علي أين تخبئ مالك في هذه الأيام؟”
فطوح أبو علي بعصاه حوله بشكل دائرة ليتأكد أن ليس حولهم أحد يسمعهم، ثم قال له هامسا: “أنت تعرف أن زوجتي أم علي كفيفة أيضا مثلي، لذلك فقد حفرت حفرة في الغرفة التي ننام فيها، وإني أضع ما أجمعه من مال في جرة وأخبئ الجرة في الحفرة وأمد فوق الحفرة فراشي، أنام أنا عليه في الليل، وتجلس عليه أم علي في النهار، وهكذا نأمن شر اللصوص الخبثاء.”
ثم قال أبو علي: “وأنت أين تخبئ مالك؟”
قال له: “أنا أحمله معي أينما ذهبت.”
فقال له: “ألا تخاف أن ينشله منك أحد النشالين؟”
قال: “لا؛ فأنا لا أضعه في جيوبي، وإنما هذا الجاكيت الذي ألبسه هو كالمرقعانية، فيه من الداخل رقع عديدة، وتحت كل رقعة بضعة دنانير ذهبية، وهكذا يبقى معي مالي ليلا نهارا لا يفارقني.”
أسرار العميان الثلاثة في أذن اللص
ثم توجهوا بالسؤال إلى الأعمى الثالث، فقال له أبو علي واللص يسمع: “وأنت أين تخبئ ثروتك؟”
قال لهم: “أنا أضعها في هذه العصا.”
قالوا له: “وكيف ذلك؟”
قال: “لقد حفرت باطنها حتى أصبح كالأسطوانة المجوفة، ووضعت فيها الدنانير الذهبية دينارا فوق دينار حتى امتلأت، فأنا أحملها معي أينما ذهبت.”
فقال له أبو علي: “والله هذه فكرة جميلة، أرني هذه العصا لأتحسسها.”
فأعطاه إياها فتحسسها وأعادها إليه، ولكن اللص كان هو الأسرع إلى تناولها، أخذها وهرب بها وهم لا يشعرون.
وبعد قليل قال صاحب العصا: “يا أبا علي أرجع لي العصا؛ لماذا تأخرت بها علي؟!”
فأجابه أبو علي: “لقد أرجعتها إليك من زمان.”
فقال له: “لا إنك لم ترجعها، إنك سرقتها.”
واشتبكوا مع بعضهم في شجار وخصام، واللص واقف بعيدا عنهم يتفرج ويضحك منهم، إلى أن أتى الناس وفرقوا بينهم، وذهب كل منهم في حال سبيله. فتبع اللص أبا علي الأعمى ليستدل على بيته. أما الأعمى أبو المرقعانية فاللص يعرف أنه يجلس كل يوم على باب هذا المسجد يتسول ويشحد.
خدعة الزلزال وسرقة جرة الذهب
وبعدما استدل اللص الخبيث على بيت أبي علي انتظر حتى أقبل الليل، فتسور الجدار ودخل البيت وهم لا يشعرون به، فأبو علي وأم علي كلاهما كفيفان، وجلس في ركن من البيت يراقب ما يجري.
وكان أول عمل عمله أبو علي بعد وصوله إلى البيت وترحيب أم علي به أن سألها عن الجرة فقالت: “هي في الحفظ والصون، فأنا جالسة عليها طوال النهار.”
عندئذ أزاح أبو علي الفراش عن الحفرة وأخرج الجرة، وأخرج منها الدنانير، فلمعت في جوف الليل، واللص ينظر، وعدها أبو علي واطمأن عليها، ثم أضاف إليها ما حصله أثناء تسوله في ذلك النهار وأعاد الجرة إلى الحفرة، ووضع الفراش فوقها واضطجع لينام، ونامت أم علي على فراش آخر بجانبه.
وبعد قليل، استغرق أبو علي في النوم وارتفع شخيره، فقال اللص لنفسه: لقد حانت الفرصة. فزحف قليلا قليلا حتى وصل إلى فراش أبي علي، وأزاح الفراش قليلا عن موضعه، فشعر أبو علي بالفراش يتحرك من تحته، فهب مذعورا وصاح: “يا أم علي الزلزلة!” فقد ظن أن زلزالا قد حدث فهز البيت والفراش.
فاستيقظت أم علي وقالت له: “أنا لم أشعر بشيء، نم يا رجل، لا يوجد زلزلة.”
فناما وعلا شخيرهما، فسحب اللص الفراش أيضا قليلا عن موضعه، فهب أبو علي مذعورا وصاح: “يا أم علي الزلزلة.”
فاستيقظت أم علي وقالت له: “أنا لم أشعر بشيء، نم يا رجل، لا يوجد زلزلة.”
فناما. وكانت الحفرة قد انكشفت فانتظر اللص حتى علا شخيرهما، فاستخرج الجرة وأخذها وهرب بها. وفي الصباح ضرب أبو علي يده على الحفرة ليطمئن على الجرة، فإذا بالحفرة فارغة، فأخذ يلطم نفسه ويصيح: “يا أم علي قلت لك الزلزلة، يا أم علي! قلت لك: الزلزلة.”
حيلة الدبابير لسرقة المرقعانية
بقي الأعمى الثالث (أبو المرقعانية). فكر اللص الخبيث كيف يحتال عليه ليجعله يخلعها، وأخيرا قال لنفسه: لا شيء يجعله يخلعها إلا الدبابير. فذهب يجمع الدبابير من أعشاشها ويضعها في جرة صغيرة معه حتى امتلأت بالدبابير، فوضع في فم الجرة قرصا من العسل وذهب إلى المسجد الذي يتسول على بابه الأعمى أبو المرقعانية.
فجلس إلى جانبه وقال له: “يا عمي! أريد أن أدخل لأصلي في هذا المسجد، ومعي جرة العسل هذه، وأخاف إن أنا أدخلتها معي أن تنكسر وتلوث المسجد، فهل تمانع أن أضعها بجانبك ريثما أصلي وأخرج؟”
فقال له الأعمى: “لا مانع يا بني دعها بجانبي وادخل إلى صلاتك.”
فتركها بجانبه وجلس بعيدا عنه يراقبه. وبعد قليل مد الأعمى يده إلى جرة العسل وأخرج قليلا من العسل وتذوقه فوجده لذيذا طيبا، فأخذ يلعق منه بأصبعه. وبعد قليل انثقب قرص العسل وخرجت الدبابير الجائعة الهائجة، فلم تجد أمامها سوى الأعمى فتعبأت به وبثيابه من كل جانب، فأخذ يصيح ويستغيث، وأخذ يخلع ثيابه ويرمي بها في كل اتجاه ليتخلص من الدبابير، فاغتنم اللص الفرصة وأخذ المرقعانية وهرب بها.
واجتمع الناس على الأعمى وأبعدوا عنه الدبابير، ولكن بعد أن أصبح وجهه كالطبل من لسع الدبابير، فحملوه إلى المستشفى لعلاجه وإسعافه. وبعد أن استعاد وعيه تفقد المرقعانية فلم يجدها، فأخذ يلطم وجهه ويبكي، وكانت مصيبته بها أعظم من مصيبته بالدبابير، فهو لا يستطيع أن يبوح بسره ويقول إنها كانت ملانة بالدنانير.
فهذا جزاء من يتسول لكي يكنز المال. واللص سيعاقبه الله تعالى أيضا ولن يغفل عنه، فهو يمهل ولا يهمل.