كان يا ما كان يا قارئين يا كرام بعد الصلاة والسلام على خير الأنام، وصحابته الكرام. كان في مدينة بغداد تاجر شاب يدعى أمين، وكان من أكثر تجار بغداد مالا، ومن أنجحهم تجارة، وكان مؤمنا صادقا، يحج كثيرا، ويوزع أموالا كثيرة على الفقراء والمحتاجين. ذهب في إحدى السنين إلى الحج، وأخذ معه عددا كبيرا من الخدم والغلمان ليحجوا على حسابه الخاص، وكانوا يذهبون عن طريق البر، على الجمال والبغال لأنه لم يكن في ذلك الوقت سيارات ولا طائرات. وكان يحمل معه هميانا – أي حزاما من الجلد – فيه ثلاثة آلاف دينار، وعشر جواهر. وفي الطريق ذهب لقضاء حاجته فضيع الهميان بين الرمال وفتش عنه فلم يجده، فتركه ولم يحزن عليه؛ لأن معه أموالا كثيرة غيره مع خدمه وغلمانه.
وبعد عودته من حجته هذه ركبه سوء الحظ أو سوء التدبير، فتوالت عليه الخسائر في التجارة، وكان الدائنون الذين لهم أموال عليه يطالبونه بأموالهم فيدفعها لهم، أما الذين له عليهم ديون وأموال؛ فإنه كان يطالبهم فلا يدفعون له شيئا. وهكذا اضطر بعد بضعة أشهر إلى إعلان إفلاسه، بعد أن باع بيته وأملاكه وغلمانه وتجارته كلها لوفاء الديون التي عليه.
من قمة الثراء إلى غياهب الفقر
ثم اضطر إلى الانسحاب من بغداد نهائيا هربا من عيون الحاسدين والحاقدين والشامتين، وذهب هو وزوجته إلى مدينة البصرة؛ حيث لا يعرفه هناك أحد، ووجد في أطرافها خانا قديما استأجر فيه غرفة صغيرة لينام فيها هو وزوجته.
وكانت نفسه عزيزة عليه؛ فلم يشحد ولم يتسول، ولم يطلب من أحد شيئا أو صدقة، بل كان يذهب كل يوم إلى السوق فيشتغل حمالا يحمل للناس والتجار أغراضهم وبضائعهم، ويشتري بالأجرة التي يأخذها طعاما له ولزوجته ويعود إلى البيت.
وجاء الشتاء، وجاء البرد والمطر، وقل العمل، وقلت الأجرة، وأصبحوا يبيتون أكثر أيامهم جائعين، ومع ذلك صبروا صبر الكرام على نوائب الدهر ومصائب الأيام.
وكانت زوجته حاملا، وفي إحدى الليالي جاءها المخاض ووضعت غلاما، وكانت جائعة لأنها لم تأكل طعاما في ذلك اليوم، وأحست بنفسها أنها ستموت هي ووليدها من الضعف والإعياء وقلة الحليب، فتوسلت إلى زوجها أن يأتيها بشيء تتقوت به. ففتش في ثيابه فوجد ربع درهم ليس غير.
فقالت له: “اشتر به شيئا أقتات به، اشتر به زيتا وحلبة فإنهما يغذيان ويدران الحليب.”
ليلة عاصفة وآخر أمل ينكسر
فأخذ صحنا من الفخار كان عنده، وذهب يفتش عن دكان لم تغلق بعد ليشتري زيتا وحلبة. وكان البرد شديدا والرياح قوية والمطر يهطل بغزارة، ووجد دكانا يوشك صاحبها أن يغلقها، فاستوقفه ورجاه أن يبيعه زيتا وحلبة بربع درهم.
فقال له: “وماذا أعطيك بربع درهم؟! أليس معك أكثر منه؟”
فقال له: “والله ليس معي غيره وامرأتي وضعت الآن وتحتاج إلى شيء تقتات به.”
فقال له صاحب الدكان: “ما دمت فقيرا فإنني سأملأ لك الصحن زيتا وحلبة بربع الدرهم.”
فشكره الرجل وأخذ الصحن وذهب، يتعثر في الظلام والأمطار والرياح، وفجأة عثرت رجله بحجر كان في طريقه فوقع على وجهه فوق الماء والطين وسقط الصحن من يده فانكسر وسال ما فيه من الزيت والحلبة، واختلطا بالطين والتراب. فأحس كأن سكينا أصابت قلبه، وأن انكسار الصحن قد قضى على كل آماله في الحياة! فما هذا النحس الذي يلازمه؟! صحيح أن الله يمتحن عباده، وقد امتحنه بما فيه الكفاية، فلماذا كل هذا البلاء؟! لقد أضاع ثروته كلها وما حزن كل هذا الحزن. لقد أحس الآن كأن آماله كلها كانت في هذا الصحن، ثم انهارت دفعة واحدة، ولم يدر أن الفجر يبزغ بعد اشتداد الظلام، وأن الفرج يأتي بعد شدة الضيق.
بكاء مرير يلفت انتباه غريب
ولكن ماذا يعمل الآن؟ هل يعود إلى زوجته خالي اليدين وهي تكاد تموت من الجوع وتنتظره بفارغ الصبر؟ وماذا يقول لها؟ إن الموت أهون عليه من هذا. وأين يذهب إذن؟ وأي باب يطرق، والظلام دامس والبرد شديد والمطر غزير؟!
لم يعد أمامه إلا باب الله، يطرقه، فقال: “سلمت أمري إليك يا رب! أنت حسبي ونعم الوكيل.”
وأحس بأنه يريد أن يبكي وأن الدموع تنفر من عينيه، فأسند ظهره إلى حائط تحت ظل غرفة عالية لتحميه من المطر، وأسلم نفسه للبكاء والعويل بصوت مرتفع، فالشوارع خالية ولا يسمعه أحد في هذه الليلة الباردة من الشتاء. وكأن الله قد آذن بالفرج، فهو قد ابتلى عبده هذا وامتحنه بما فيه الكفاية، فوجده صابرا، نعم العبد إنه أواب.
فانفتحت نافذة في الغرفة التي فوقه، وأطل منها رجل وقال له: “لماذا تبكي هذا البكاء الشديد يا رجل؟! هل أنت امرأة أم طفل؟! ما الذي حدث لك حتى تبكي هذا البكاء الشديد؟ لقد أزعجت أهل هذا البيت، وأيقظت أطفالنا من نومهم، هل تقول لي ما هو سبب بكائك؟”
فقال له: “سبب بكائي صحن من الفخار كان فيه زيت وحلبة وقع مني وانكسر.”
فقال له الرجل: “يا رجل صحن لا يبلغ ثمنه نصف درهم تبكي عليه كل هذا البكاء؟!”
فأجابه: “لقد أضعت منذ سنتين على طريق الحج، هميانا – حزاما – فيه ثلاثة آلاف دينار وعشر جواهر؛ فما سألت عنه ولا حزنت عليه حزني على هذا الصحن، لأنني كنت أملك غير ذلك الهميان كثيرا من المال، أما هذا الصحن فهو كل ما أملك الآن، وزوجتي نفساء، تكاد تموت من الجوع وهي تنتظر عودتي بفارغ الصبر.”
لقاء يغير القدر
وعندما سمع الرجل ذلك أغلق النافذة بسرعة، ونزل من الغرفة، وفتح باب بيته، وأقبل على التاجر، وقال له: “أنت ما اسمك؟”
قال: “أمين.”
قال: “ومتى ضيعت هميانك؟”
قال: “منذ سنتين عندما كنت ذاهبا إلى الحج.”
قال: “وأين ضيعته؟”
قال: “على بعد ثلاث مراحل تقريبا من البصرة باتجاه الحجاز.”
قال: “وما لون هميانك؟”
قال: “هو من الجلد لونه أسود، ولكن لماذا تسألني كل هذه الأسئلة الآن؟”
قال: “لا شيء، ولكنني أراك رجلا فقيرا بائسا هده الفقر، واستولى عليه اليأس، لذلك تعال معي إلى داخل البيت.”
وأخذ بيده ليدخله إلى البيت فسحب يده منه وقال: “إلى أين أدخل، وزوجتي في الخان تكاد تموت من الجوع، وتنتظرني بفارغ الصبر؟!”
فقال له الرجل: “تعال معي وسنأتي بزوجتك أيضا من الخان.”
عند ذلك دخل معه إلى البيت.
فأيقظ الرجل غلمانه وأمرهم أن يأخذوا التاجر أمين إلى الحمام، وأن يلبسوه ثيابا جديدة، ثم يأخذوه إلى غرفة خاصة به في جناح خاص له ولزوجته لينام ويرتاح فيها. ثم أرسل جماعة من غلمانه وجواريه ليأتوا بزوجة أمين وابنها من الخان وليفعلوا بها مثل ما فعلوه مع زوجها من إدخالها الحمام وإلباسها ألبسة جديدة، ثم أخذها إلى الجناح الخاص بها وبزوجها، وإطعامها ما تشاء من الطعام. وبعد أن خرج التاجر أمين من الحمام وذهب إلى جناحه الخاص وجد زوجته قد سبقته إليه بعد أن اغتسلت وأكلت وشربت وأرضعت وليدها، فسكت ونام بعد أن كان يبكي بكاء شديدا. وعندما وجد زوجته وابنه اطمأن وفرح كثيرا ونام هو وزوجته نوما عميقا بعد الذي عاناه في هذه الليلة من العذاب والتعب.
العودة إلى عالم التجارة والنجاح
وفي الصباح استيقظ أمين قبل طلوع الشمس، وصلى الصبح وشكر الله على فضله ونعمه. وبعد أن انتهى من صلاته وجد الغلمان والجواري قد أتوا له ولزوجته بطعام الفطور، وفيه كل ما لذ وطاب، فسألهم عن صاحب هذا القصر: “من يكون؟”
فقالوا له: “إنه شهبندر تجار البصرة، أي: رئيس التجار.”
وبعد الظهر أتاهم طعام الغداء، وفي المساء أتاهم العشاء، وبقوا على هذه الحالة مدة أسبوع، يأتيهم الطعام ولا يرون صاحب القصر الذي استضافهم عنده. وبعد الأسبوع أتى صاحب القصر لزيارة أمين في جناحه، فخف لاستقباله وأخذ يشكره على ما قدمه له وأكرمه به، وأنه لا يستطيع أن يكافئه على معروفه هذا، ودعا الله أن يجزيه خير الجزاء، ثم استأذنه بالذهاب هو وزوجته إلى غرفتهم في الخان.
فحلف صاحب القصر بالله تعالى أنهم لن يذهبوا، وقال: “هذا الجناح هو لكم ستسكنون فيه، فأنا لا حاجة لي به.”
فقال له أمين: “ولكنني لا أقبل أن أعيش هكذا أنا وزوجتي وابني من مال غيري، وأن أجلس هكذا دون عمل.”
فقال له صاحب القصر: “لا بل ستعمل، ألم تقل إنك تاجر وتفهم بالتجارة، فهذه مئتا دينار ذهبا، اذهب منذ الغد واشتغل بها بالتجارة، وتعيش بعد اليوم مما تربحه في تجارتك.” ودفع له مئتي دينار ذهبا، قائلا: “هذه قرضة عندك.”
فأخذها أمين فرحا بها، فمن أعز أمانيه أن يعود تاجرا كما كان، وذهب إلى السوق فاستأجر دكانا صغيرة، واشترى بعض البضاعة من تجار الجملة، ووضعها في الدكان. وصار يعمل بجد ونشاط، كل يوم من الصباح إلى المساء.
وبعد شهرين نظر في حسابه فوجد أن رأس ماله قد أصبح أربعمئة دينار أي إنه ربح مئتي دينار في شهرين، فوضع مئتي دينار في كيس وذهب إلى صاحبه شهبندر التجار فسلم عليه وأعطاه كيس الدنانير قائلا له: “هذه المئتا دينار القرضة التي لك عندي، قد أصبحت أملك مثلها ولله الحمد، ولم أعد بحاجة إليها.”
فأعادها إليه وقال له: “اتركها معك الآن، وهذه خمسمئة دينار أخرى فوقها، وسع بها تجارتك ما دمت ماهرا في التجارة إلى هذا الحد.”
فأخذها وهو يكاد يطير من الفرح واستأجر مخزنا كبيرا بدلا من دكانه الصغيرة ووسع تجارته، فصار يتعامل مع تجار من بغداد والشام وإيران والهند والصين. وبعد سنة أصبح من كبار تجار البصرة.
الكشف عن سر الهميان المفقود
وفي يوم من الأيام وضع سبعمئة دينار في كيس وذهب إلى شهبندر التجار ليرد إليه قرضته. ولكن هذا رفض أن يأخذها وقال له: “اتركها معك، وأنا أدعوك على العشاء غدا، لا تنس ذلك.”
وفي اليوم الثاني ذهب إلى قصر شهبندر التجار لحضور وليمة العشاء. وبعد العشاء حمل شهبندر التجار بيده صندوقا وضعه على الطاولة، ثم فتحه وأخرج منه هميانا أسود، وقال للتاجر أمين: “هل تعرف هذا الهميان؟”
وما أن رآه حتى صاح: “هذا همياني!” وسقط مغشيا عليه.
فأسرع الخدم إليه وصاروا يرشون الماء البارد على وجهه حتى أفاق. عند ذلك قال له الشهبندر: “منذ سنتين ذهبت إلى الحج، وعلى بعد ثلاث مراحل من البصرة ذهبت لقضاء بعض حاجتي، فعثرت على هذا الهميان، فلم أمس ما فيه لعلي أجد صاحبه فأدفعه له. وعندما ذكرت لي صفات هميانك الضائع تأكدت أن هذا هو هميانك، ولو كنت دفعته لك عند ذلك لربما أصابك سوء، والمال الذي أعطيته لك هو من مالك، بارك الله تعالى لك فيه.”
العبرة من القصة
لا تيئس، فما بعد الضيق إلا الفرج.