الملك يدوم بالعدل ولو كان كافرا، ويزول بالظلم ولو كان مسلما. قد يستمر الملك الظالم بعض الوقت بالقوة، ولكن النتيجة محتومة؛ وهي الزوال، ولو بعد حين.
الخلفاء المسلمون الصالحون قد فهموا ذلك وآمنوا به وطبقوه منذ فجر الإسلام، لذلك كان القضاة يحكمون على الملوك والأمراء والرؤساء، ولا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم، وكان الملوك والأمراء والرؤساء يخضعون وينفذون الأحكام طائعين، ولذلك استمر حكمهم، وقويت دولتهم. ومن حاد عن ذلك وعن العدل والحق؛ كان يفقد ملكه فيقتل أو يطرد. وإليكم هذه القصة عن عدل القضاة وخضوع الأمراء:
كان المهدي ثالث خلفاء بني العباس يفتش عن رجل فقيه صالح تقي ليوليه قضاء مدينة الكوفة، فدلوه على رجل فقيه صالح تقي لا يخاف إلا الله تعالى؛ اسمه (شريك بن عبد الله). فاستدعاه، وقال له: “إنني أريد أن أوليك قضاء الكوفة.”
فقال له شريك: “إنني لا أحب القضاء، ولا أريد أن أكون قاضيا أبدا.”
فقال له المهدي: “ولماذا؟”
قال شريك: “لأنني أخاف أن أخطئ في حكم من أحكامي، فأنا إنسان على كل حال، فيدخلني الله تعالى النار، كما أخاف أن أصدر حكما على أحد الرؤساء أو الأمراء فلا ينفذ.”
قاض يكره القضاء وخليفة يتعهد بالعدل
فقال له المهدي: “إذا اجتهدت أن تحكم بالحق ثم أخطأت فهذا لا يؤاخذك الله فيه، وإنما يؤاخذك إذا تعمدت الظلم، وتعمدت أن تحكم بغير ما أنزل الله تعالى. أما تنفيذ الأحكام فأنا أتعهد لك بتنفيذ أحكامك كلها ولو كانت علي أنا. وإذا لم تتولوا القضاء أنتم – يا فقهاء الأمة وصلحاءها وأتقياءها – فمن يتولاه؟! هل يتولاه الجاهلون والظالمون والمنحرفون؟ فيكون الإثم عليكم أنتم؛ لأنكم هربتم من ميدان الحق.”
عند ذلك قبل شريك أن يتولى قضاء الكوفة، وكان واليها موسى بن عيسى عم الخليفة المهدي. وصار شريك يذهب كل يوم إلى مجلس القضاء منذ الصباح، فيدخل عليه المتخاصمون فيحاكمهم ويحكم على المذنب والمسيء منهم ويرد الحق إلى صاحب الحق، ولا يخاف في أحكامه من أحد سوى الله تعالى.
وكان في الكوفة بستان جميل على شاطئ نهر الفرات، يملكه رجل من الكوفة، وكان أمير الكوفة موسى يريد أن يمتلك هذا البستان؛ لأنه بجانب قصره، فعرض على صاحبه أن يشتريه منه، فلم يرض الرجل أن يبيعه.
نزاع على بستان بين أمير وامرأة
ثم توفي الرجل صاحب البستان، وكان له أولاد ذكور وبنت واحدة. فعرض موسى بن عيسى على الورثة أن يشتري البستان منهم، فرضي الأولاد جميعهم ببيعه ما عدا البنت فإنها لم تقبل أن تبيع حصتها على الرغم من الثمن الكبير الذي عرضه عليها موسى بن عيسى. وباع الأولاد حصتهم وبقيت حصة البنت، فبنت حائطا حول حصتها وعزلتها عن بقية البستان. ولكن موسى بن عيسى يريد أن يأخذ البستان كله؛ سواء أكان بحق أو دون حق! لذلك أرسل بعض خدمه فهدموا الحائط الذي بنته البنت، وضموا حصتها إلى باقي البستان. فذهبت إلى القاضي شريك وأقامت الدعوى على موسى بن عيسى أمير الكوفة.
فأرسل القاضي شريك إليه أن يحضر إلى مجلس القضاء ليستمع إلى أقواله وإلى أقوال المرأة معا، فلم يقبل الحضور، وعد ذلك إهانة له، وهو أمير الكوفة، أن يحضر مجلس القضاء ليتحاكم مع امرأة! وأرسل بدلا منه صاحب الشرطة – أي: رئيس الشرطة – ليقول للقاضي: “كيف تقبل دعوى امرأة دون أن يكون معها شهود؟!”
فقال له القاضي: “وأنت لماذا تتدخل فيما لا يعنيك؟! فأنا طلبت الأمير ولم أطلبك أنت، لذلك فجزاؤك السجن.” وأمر رجاله أن يقبضوا عليه ويضعوه في السجن.
تحدي سلطة القضاء
ولما علم الأمير بذلك أرسل جماعة من وجهاء الكوفة إلى القاضي ليسترضوه، ويقولوا له إن الأمير ليس من العامة لكي تعامله كبقية الناس، بل يجب أن تكون له معاملة خاصة.
فقال لهم شريك القاضي: “الناس كلهم أمام القضاء سواء، وأنتم أيضا تتدخلون في أمور القضاء، وهذا جزاؤه السجن.” وأمر رجاله أن يضعوهم في السجن.
وعندما علم الأمير موسى بن عيسى بذلك ركب هو ورجاله وذهبوا جميعهم إلى السجن، ففتحوه وأخرجوا الجميع منه. فأتى السجان إلى القاضي شريك وأخبره بذلك. فقال: “أنا لم أطلب القضاء، وإنما الخليفة أكرهني عليه، وما قبلت به إلا على شرط أن تنفذ أحكامي كلها.”
وحمل أوراقه وكتبه ومتاعه وركب دابته وتوجه إلى بغداد. وعندما علم الأمير بذلك خاف كثيرا، لأن الخليفة إذا علم بذلك فإنه سوف يعزله من الولاية، لذلك ركب ولحق بالقاضي خارج مدينة الكوفة، وصار يناشده ويرجوه أن يعود إلى الكوفة وينفذ له طلباته كلها.
فقال له القاضي: “لا أعود حتى يعود السجناء جميعهم إلى السجن، وأن تقبل أنت بحضور مجلس القضاء مع المرأة صاحبة البستان.”
فقبل الأمير بكل ذلك، وعاد السجناء إلى السجن، وحضر الأمير مجلس الحكم مع المرأة، فحكم عليه القاضي أن يعيد بناء الحائط كما كان، وألا يكره المرأة على بيع حصتها، فامتثل الأمير للحكم.
عند ذلك أمر القاضي بإخراج السجناء كلهم من السجن، وذهب إلى الأمير وسلم عليه وقال له: “هل تأمرني الآن بشيء؟ فذاك حق الشرع، وهذا حق الأدب.”
العبرة من القصة
هكذا كان العلماء يحكمون على الأمراء، ويقيمون حكم الله تعالى ولا يخافون من أحد سواه؛ فالعدل أساس الملك.