كانت جدتي رحمها الله تعالى تقول دائما إن المؤمن يجب أن يصبر ويثبت، وألا يخاف إلا من الله، لذلك أنزل الله سورة البروج. وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فقال ما معناه: كان يوجد ملك ظالم لا يعبد الله، وقد جعل نفسه ربا، وأمر الناس أن يعبدوه من دون الله. وكان عند هذا الملك وزير ساحر يساعده على ظلمه بسحره. ولكن هذا الوزير كبر وضعف فقال للملك: “إنني كبرت وضعفت فأرسل إلي غلاما ذكيا أعلمه السحر قبل أن أموت، فيصبح وزيرا لك بعد موتي.”
فأرسل إليه غلاما ذكيا من حاشيته، وصار الغلام يذهب كل يوم صباحا إلى الساحر فيعلمه السحر، ويعود في المساء إلى أهله.
وكان في طريقه رجل راهب قد آمن بالله، وكان يصلي ويتعبد على دين سيدنا عيسى، وذلك قبل أن يولد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
الغلام الذكي بين الساحر والراهب
وفي أحد الأيام؛ بينما كان الغلام يمشي في الطريق وهو ذاهب إلى بيت الساحر؛ رأى الراهب وهو يصلي ويتعبد، فتعجب منه ودخل عليه وسأله: “لماذا تصلي هكذا؟”
فقال له: “أنا أصلي لله.”
فقال الغلام: “ومن هو الله؟ أليس الملك هو ربنا؟”
قال الراهب: “لا، الملك بشر مثلنا، وسوف يموت في يوم من الأيام. أما الله فهو حي لا يموت أبدا وهو الذي خلقنا وخلق الملك وخلق الناس جميعا وخلق العالم كله.”
فقال الغلام: “آمنت بالله تعالى، فعلمني هذا الدين.”
فصار الراهب يعلمه، وصار الغلام عندما يذهب في الصباح إلى الساحر يمر على الراهب، وعندما يعود في المساء إلى أهله يمر على الراهب أيضا ليتعلم منه؛ لذلك صار يتأخر في المجيء إلى الساحر في الصباح، ويتأخر في العودة إلى أهله في المساء. وصار الساحر يضربه بسبب تأخره في المجيء إليه، فشكا الغلام ذلك إلى الراهب.
فقال له: “إذا سألك الساحر: لماذا تأخرت؟ فقل له: تأخرت عند أهلي، وإذا سألك أهلك: لماذا تأخرت؟ فقل لهم: تأخرت عند الساحر.”
معجزة تظهر الحق وقدرات إيمانية
وفي أحد الأيام وبينما الغلام ذاهب إلى بيت الساحر رأى حية عظيمة واقفة على الطريق، والناس خائفون منها لا يستطيعون الذهاب، فقال الغلام في نفسه: “الآن أعرف هل الساحر أفضل أم الراهب؟”
وأخذ حجرا كبيرا وقال: “اللهم إن كان الساحر أحب إليك من الراهب فاقتل هذه الحية.” ورمى الحجر على الحية فلم يؤثر شيئا.
ثم أخذ حجرا آخر وقال: “اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتل هذه الحية.” ورمى الحجر عليها فماتت في الحال، فعرف أن أمر الراهب هو الحق، وأنه أحب إلى الله تعالى.
وعندما رأى الناس ذلك صاروا يقصدونه ويزورونه ليدعو لهم، فكان يأتيه المرضى فيدعو لهم فيشفون، ويأتيه الأعمى فيدعو له فيشفى، ويأتيه الأبرص فيدعو له فيشفى، وما عاد يذهب إلى الساحر لأنه عرف أنه ليس على الحق.
وحكى للراهب ما جرى معه فقال له الراهب: “إنك أصبحت أفضل مني، وسيعلم الملك بأمرك؛ فلا تقل له إنني أنا الذي علمتك؛ لأنه سيقتلني عند ذلك.”
إيمان الوزير يكشف سر الغلام
وكان للملك وزير أصابه العمى، وانقطع عن الملك بسبب ذلك، ولما سمع بأمر الغلام وأنه يشفي الأعمى والأبرص ذهب إليه وأخذ معه هدايا كثيرة، وقال له: “إذا أنت شفيتني فكل هذه الهدايا لك.”
فقال له الغلام: “أنا لا أريد شيئا، وأنا لا أشفي أحدا، وإنما الله هو الذي يشفي.”
قال له الوزير: “ومن هو الله؟”
قال: “هو ربي وربك ورب جميع العالم.”
قال الوزير: “وهل يوجد رب غير الملك؟”
فقال الغلام: “الملك ليس ربا، إنما هو بشر مثلي ومثلك، لا يشفي أحدا ولا يمنع قدرا، وإذا كنت تريد أن تشفى فيجب أن تؤمن بالله رب العالمين.”
فقال الوزير: “آمنت بالله رب العالمين.”
فدعا له الغلام، فرد الله بصره، وأصبح يرى كل شيء حوله. وذهب إلى الملك؛ فلما رآه تعجب وقال: “من رد عليك بصرك؟”
قال: “الله رب العالمين.”
فقال الملك: “وهل تؤمن برب غيري؟”
قال الوزير: “نعم أؤمن بالله رب العالمين الذي شفاني.”
قال الملك: “من علمك هذا؟” فلم يجبه، فصار يعذبه حتى دله على الغلام.
فأرسل جنوده فأتوا بالغلام فقال له الملك: “ألست أنت الذي أرسلناك إلى وزيرنا الساحر لتتعلم عليه السحر؟”
قال الغلام: “نعم.”
فقال الملك: “إذا فقد أصبحت ساحرا عظيما، وأصبحت تشفي الأعمى والأبرص وجميع المرضى.”
قال الغلام: “لا، إنني لم أصبح ساحرا عظيما، وقد تركت الساحر والسحر، وأنا لا أشفي أحدا، وإنما الذي يشفي هو الله تعالى.”
فقال الملك: “ومن هو الله؟”
قال الغلام: “هو رب العالمين الذي خلقني، وخلقك، وخلق هذا العالم.”
فقال الملك: “وهل يوجد رب غيري؟ من علمك هذا الذي تقول؟” فلم يجب الغلام فما زال الملك يعذبه حتى دله على الراهب.
استشهاد الراهب والوزير وثبات الغلام
فأتوا بالراهب، فقال له الملك: “من ربك؟”
قال: “الله رب العالمين.”
قال الملك: “إذا لم تكفر بربك هذا وتؤمن بي ربا، فسوف أقتلك أبشع قتلة.”
قال: “لا أكفر بربي الله تعالى أبدا بعد إذ هداني، فافعل ما تشاء.”
فأمر الملك أن ينشر بالمنشار من رأسه إلى رجليه حتى وقع نصفين وهو ثابت على دينه.
ثم أتوا بالوزير الذي كان أعمى وشفاه الله تعالى، فقال له الملك: “ألا تكفر بالله وتؤمن بي؟”
قال: “لا يمكن أن أبدل ديني أبدا بعد إذ هداني الله تعالى.”
قال الملك: “إذا أقتلك هنا مثل هذا الراهب.”
قال: “افعل ما بدا لك.”
فوضعوا المنشار على رأسه ونشروه، حتى وقع نصفين وهو ثابت على دينه.
ثم أتوا بالغلام فقال له الملك: “ألا ترجع عن دينك أنت أيضا؟”
قال: “لا.”
فقال لجنوده: “خذوه إلى قمة الجبل، فإذا لم يرجع عن دينه ارموه إلى الوادي لكي يموت شر ميتة.”
محاولات إعدام فاشلة ونجاة إلهية
فأخذوه وصعدوا به الجبل، فقال الغلام: “اللهم اكفني إياهم كيف شئت وبما شئت.”
فاهتز الجبل فسقطوا جميعهم إلى الوادي وماتوا، ما عدا الغلام فقد بقي في مكانه حيا.
فعاد إلى الملك، فلما رآه تعجب منه وقال له: “أين الجنود؟”
قال: “أهلكهم الله تعالى.”
فطلب جنودا آخرين، وقال لهم: “خذوه في سفينة إلى عرض البحر وألقوه في الماء إذا لم يرجع عن دينه، ليغرق هناك.”
فأخذوه وحملوه في السفينة، وساروا به في البحر. فقال: “اللهم اكفني إياهم كيف شئت وبما شئت.”
فاهتزت السفينة وسقطوا جميعهم في البحر وغرقوا، ما عدا الغلام فقد بقي حيا وعاد إلى الملك.
تضحية الغلام وإيمان الجموع
فلما رآه تعجب منه وقال له: “أين الجنود الذين ذهبوا معك؟”
قال: “أهلكهم الله تعالى ونجاني.” ثم قال للملك: “إذا كنت تريد أن تقتلني حقا فافعل ما أقوله لك.”
قال الملك: “قل.”
فقال الغلام: “تجمع الناس في ساحة المدينة الكبرى في يوم معين وتربطني إلى الشجرة الموجودة هناك، ثم تأخذ سهما من سهامي وتضعه في قوسي وتصوبه إلى رأسي، ثم تقول أمام الناس جميعهم: بسم رب هذا الغلام، وترميني بالسهم. فأموت.”
فعل الغلام ذلك لكي يعرف الناس جميعهم أن ربه هو الحق، وأن الملك ليس ربا، أي: ضحى بنفسه في سبيل إنقاذ شعبه. ففعل الملك ما طلبه الغلام، ومات الغلام، وعند ذلك صاح الناس جميعهم: “آمنا برب هذا الغلام، آمنا بالله رب العالمين.”
فبهت الملك، وغضب غضبا شديدا، وأمر جنوده أن يحفروا خندقا ويشعلوا فيه النيران، وأن يرموا فيها كل من يؤمن بالله تعالى ولا يرجع عن دينه. وأخذ الناس يتساقطون في النيران وهم صابرون ثابتون على الحق مهما نالهم من العذاب، حتى إن امرأة ترددت في السقوط، فقال لها ولدها الرضيع: “لا تخافي يا أماه فإنك على الحق.” وهكذا.
[[قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)]] سورة البروج