في يوم من ربيع سنة (١٩٧٥م)، جلس إمام مسجد الفرقان بمدينة حلب السورية بعد صلاة المغرب خلف طاولة خشبية صغيرة، وضع عليها القرآن الكريم، وبعد البسملة والحمدلة والصلاة على النبي، فتح على سورة يوسف عليه الصلاة والسلام، وباشر بتفسير آياتها الكريمة حتى وصل إلى الآية الكريمة رقم (٩٠) من السورة؛ وهي: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾. قال: سأروي هذه القصة الواقعية فهي أحسن تفسير لهذه الآية الكريمة:
بطل هذه القصة أعرفه شخصياً، وعلى حد علمي كان منذ بضع سنوات لا يزال حياً يرزق، يعيش بمدينة بيروت. هذا الرجل ولد بحي الميدان بدمشق في سنة (١٨٩٥م)، وتوفي والداه أبوه وأمه، وهو صغير، ولم يكن له أقارب يعيش عندهم، فأخذه جيرانه إلى بيتهم، وعاش بينهم كواحد من أبنائهم، وفي سنة (١٩١٣م) أراد هؤلاء الجيران الذين يعيش معهم أن يذهبوا إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، فتوسل إليهم أن يأخذوه معهم كي يخدمهم في الطريق، ويؤدي بدوره فريضة الحج. وفي ذلك الوقت كانت سورية ولبنان وفلسطين والحجاز كلها تابعة للدولة العثمانية، أما مصر فكان يحتلها الإنكليز، ولكنها كانت تابعة بالاسم للدولة العثمانية أيضاً؛ لذلك كان السفر بين هذه البلاد كلها يتم دون الحاجة إلى جواز السفر.
الهميان الضائع والمكافأة
وسافر الجيران ومعهم الشاب الفقير من دمشق إلى بيروت بالقطار، وركبوا السفينة من بيروت إلى الحجاز، حيث مرت بهم في قناة السويس، ثم سارت في البحر الأحمر إلى أن وقفت في ميناء الينبع؛ ومن هناك ركبوا الجمال إلى المدينة المنورة، وبعد سبعة أيام وصلوا إلى المدينة المنورة، فزاروا النبي صلى الله عليه وسلم، ومكثوا فيها عشرة أيام، ثم سافروا منها إلى مكة المكرمة على ظهور الجمال أيضاً؛ وبعد عشرة أيام وصلوا إلى مكة المكرمة، فأدوا مناسك العمرة من طواف وسعي وحلق. ثم استأجروا بيتاً ليقيموا فيه ريثما يأتي وقت الحج والصعود إلى جبل عرفات.
وكان الفتى الشاب يستيقظ كل يوم قبل الفجر فيتوضأ ويذهب إلى الحرم فيطوف حول الكعبة سبعة أشواط، ثم يصلي صلاة التهجد إلى أن يؤذن الفجر، فيصلي صلاة الصبح جماعة مع الإمام ثم يعود إلى البيت. وكانت شوارع مكة المكرمة في تلك الأيام ضيقة مظلمة، ليس فيها كهرباء، وكانت مفروشة بالرمال وليس بالزفت كما هي اليوم.
وفي إحدى الليالي بينما كان الفتى الشاب يمشي في شوارع مكة المكرمة، ذاهباً إلى الحرم، عثرت قدمه بشيء ثقيل، فتناوله بيده، فإذا هو هميان أي حزام من الجلد أسود اللون، ثقيل الوزن، تسمع منه خشخشة النقود. فشده حول جسمه تحت ثيابه، وتابع سيره إلى الحرم لئلا يفوته الطواف وصلاة التهجد قبل أذان الفجر. وهكذا طاف وصلى التهجد، كما صلى الصبح جماعة مع الإمام.
إخلاص وأمانة
وبعد الصلاة وقف رجل مصري مسن وقال:
يا أيها الحجاج ضاع مني هميان فيه ألف دينار، من وجده فليرده علي، وله خمسون ديناراً حلالاً زلالاً.
فقام الفتى وقال:
ما صفات هميانك؟
فأعطاه المصري صفاته؛ وهي مطابقة لصفات الهميان الذي وجده، فقال له:
هميانك عندي.
وهكذا رضي الشاب الصالح بخمسين ديناراً حلالاً، وفضلها على ألف دينار حراماً، وفضل الآخرة على الدنيا، ورضا الله تعالى على سخطه، وقال له المصري:
لنذهب إذن إلى بيتنا لكي نعد الدنانير وأعطيك منها خمسين ديناراً.
وذهبوا إلى بيت المصري، وفي الطريق سأل المصري الشاب:
هل أنت متزوج؟
فأجابه:
لا.
وفي البيت عد المصري الدنانير فوجدها ألف دينار لم تنقص شيئاً، فقال للشاب:
هذه والله دنانيري لم ينقص منها شيء.
وقدم للشاب كأساً من الشاي، وبعد أن شربها قال له:
ما دمت لست متزوجاً ألا ترى أن خمسين ديناراً كثيرة عليك، ألا يكفيك ثلاثون ديناراً فقط؟
فغضب الشاب ولكنه كتم غضبه، وماذا يستطيع أن يفعل؟! لذلك قال للمصري:
كما تريد، يكفيني ثلاثون ديناراً.
عندئذ قدم المصري للشاب كأساً أخرى من الشاي، وبعد أن شربها قال له:
ما دمت لست متزوجاً ألا ترى أن ثلاثين ديناراً كثيرة عليك، ألا يكفيك عشرة دنانير فقط؟
فازداد غضب الشاب، ولكنه كتم غضبه وقال للمصري:
كما تريد، يكفيني عشرة دنانير.
عندئذ أراد المصري أن يقدم للشاب كأساً أخرى من الشاي. ولكن الشاب شعر بأن هذه الكأس ستذهب بالدنانير العشرة الباقية وسيخرج من «المولد دون حمص»، لذلك رفض أن يشرب الكأس، ولكن المصري أصر عليه حتى شربه. وعند ذلك قال له المصري:
ألا ترى أنني إذا دعوت لك دعوة صالحة بجوار الكعبة المشرفة، واستجابها الله، هي خير لك من كل هذا المال؟
فأجابه الشاب وهو يكاد ينفجر من الغضب، ولكن ماذا يستطيع أن يفعل؟:
افعل ما تشاء، سلمت أمري إلى الله تعالى.
عند ذلك أخذه المصري من يده، وذهب به إلى حجر إسماعيل بجوار الكعبة المشرفة، ودعا له هناك دعاء طويلاً، لم يسمع منه الشاب شيئاً لأنه كان يتميز غيظاً وغضباً، ولكن ماذا يستطيع أن يفعل، وقد أصبحت الدنانير بيد المصري؟!
العودة إلى بلاد الشام
وبعد انتهاء الدعاء، أفلت الشاب يده من يد المصري وذهب في سبيله يمشي في شوارع مكة المكرمة إلى أن هدأت نفسه قليلاً، فعاد إلى بيت أصحابه، فتلقوه بالسؤال والاستغراب بسبب غيبته الطويلة على غير عادته؛ فقص عليهم قصته وما حدث معه في هذا الصباح، وما فعله معه المصري؛ فصاروا يلومونه كيف يسلم المصري دنانيره قبل أن يأخذ منها خمسين ديناراً؟
ولكن أحدهم قال له:
لا تحزن ولا تغضب يا فتى، فإن الله سيعوض عليك خيراً منها، لأنه يقول: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وجاء موعد الحج فذهبوا في اليوم الثامن من ذي الحجة إلى منى وفي اليوم التاسع صعدوا إلى عرفات؛ حيث وقفوا هناك إلى ما بعد مغرب الشمس، فنزلوا من عرفات إلى المزدلفة، ومكثوا فيها إلى ما بعد طلوع الفجر، فذهبوا إلى منى ورموا الجمرات خلال ثلاثة أيام، ثم عادوا إلى مكة المكرمة وطافوا طواف الحج وسعوا بين الصفا والمروة، ثم طافوا طواف الوداع، وسافروا بعده على ظهور الجمال إلى جدة.
ومن جدة ركبوا السفينة التي ستعود بهم إلى مدينة بيروت. وكانت سفن الحجاج عند عودتها تقف في محطة (الطور) بقناة السويس، وينزل الحجاج إلى البر ليمكثوا في المحطة ثلاثة أيام تحت إشراف الأطباء، لكي يروا هل هناك إصابة بمرض وبائي سار بين الحجاج أم لا، وتسمى هذه المحطة: الحجر الصحي (الكرنتينا).
بداية جديدة
وبعد الأيام الثلاثة قال الشاب لأصحابه:
إنني أسمع بجمال مدينة القاهرة، وما دمت قد أصبحت قريباً منها، فإنني أريد أن أذهب إليها من هنا، ثم أعود إلى دمشق بعد ذلك في مستقبل الأيام.
وحاول أصحابه أن يثنوه عن عزمه هذا، ولكنه أصر على السفر إلى القاهرة، وكأن قدر الله تعالى يسوقه إلى هناك سوقاً.
وبعد أن مكثوا ثلاثة أيام في الطور، ركب أصحابه السفينة ليذهبوا بها إلى بيروت ومنها إلى دمشق بالقطار، وركب هو القطار ليذهب به إلى القاهرة. وعندما وصل إليها ذهب إلى حي الحسين، واستأجر غرفة صغيرة بالقرب من مسجد الحسين له، وصار يشتغل حمالاً، يحمل للناس متاعهم وماءهم وحاجاتهم، ويصلي الصلوات الخمس جماعة في مسجد الحسين.
ومضى على ذلك بضعة أشهر، وفي أحد الأيام، بعد أن صلى العصر جماعة، وجلس ليقرأ الورد بعد الصلاة، جلس بجانبه شيخ مسن وقور وسلم عليه وقال له:
إني أتوسم فيك الخير، فقد رأيتك منذ بضعة أشهر لا تترك صلاة الجماعة في هذا المسجد، ويبدو عليك أنك رجل غريب عن هذه البلدة، فمن أين أنت؟
قال الشاب:
أنا من بلاد الشام، وقد حججت في هذه السنة، وفي طريق عودتي من الحج أتيت إلى هنا لأعمل وأعيش، فقد أحببت هذه البلدة القاهرة.
فسأله الشيخ:
هل أنت متزوج؟
قال:
لا، لست متزوجاً.
فقال الشيخ:
هل تحب أن تتزوج، وأن تكسب مع الزوجة البيت والعمل؟
قال الشاب:
وكيف يكون ذلك، وأنا ليس معي ما أتزوج به؟!
فقال الشيخ:
يا بني إني قد توسمت فيك الخير، ورأيتك رجلاً صالحاً يوثق به، وهذا الزواج لا يكلفك شيئاً؛ فقد كان لي صديق، وكان تاجراً غنياً، وكان رجلاً صالحاً، ذهب إلى الحج في هذه السنة أيضاً، وبعد عودته من الحج مرض، وتوفي من أربعة أشهر ونصف، وترك زوجة وبنتاً واحدة ليس لهما أحد؛ فإذا كنت توافق على الزواج من البنت، فإنك ستسكن معهما في بيتهما، وستعمل في دكان الأب المتوفى، وتصرف عليك وعليهما مما يحصل من الربح.
قال الشاب:
نعم أوافق على الزواج من هذه البنت جزاك الله تعالى خير الجزاء.
فقال الشيخ:
إذن نصلي اليوم المغرب هنا في هذا المسجد، ونذهب بعد الصلاة إلى بيتهما لنخطب البنت إن شاء الله تعالى.
عودة الهميان
ذهب الفتى وأصلح من شأنه على قدر الإمكان، ولبس ثوباً نظيفاً، وعندما حان موعد أذان المغرب ذهب إلى مسجد الحسين وصلى المغرب جماعة هناك، وكان الشيخ يصلي هناك أيضاً، وبعد الصلاة ذهبا سوية إلى بيت صديق الشيخ المتوفى، وكان قريباً من المسجد. فطرق الشيخ الباب واستأذن بالدخول، وقال:
إن معي شاباً صالحاً.
فسمحتا لهما بالدخول. فدخلا، وبعد أن جلسا خاطب الشيخ الزوجة والبنت من وراء حجاب، قائلاً:
هذا الشاب أتوسم فيه الخير والصلاح، فقد رأيته لا يترك صلاة الجماعة في مسجد الحسين منذ وصوله إلى هذه البلدة؛ وإذا قبلتم به زوجاً، فإنه سيسكن معكم في هذا البيت وسيعمل في دكان الحجي رحمه الله تعالى، ويصرف عليكما وعليه مما يحصل من الربح.
فقالت الزوجة:
نحن بعد وفاة الحجي ليس لنا بعد الله لا أحد سواك يرعانا ويرعى مصالحنا، فإن كنت ترى هذا الشاب صالحاً لبنت صديقك المرحوم، وترضى به زوجاً لها، فنحن نرضى به أيضاً.
عند ذلك قال الشيخ:
إذن سنذهب الآن لإحضار المأذون والشهود ونعقد العقد في هذه الليلة، فخير البر عاجله.
وذهب الشيخ والشاب وأحضرا المأذون والشهود وعقدوا عقد الشاب على البنت؛ وبعد بضعة أيام، جهزت الفتاة خلالها نفسها، صار العرس، ودخل بها الشاب، وانتقل إلى بيت زوجته وأمها ليعيش معهما، وصار يعمل في دكانهما. وكان الشاب صالحاً صادقاً مستقيماً، لذلك أحبه الناس وأقبلوا عليه، وكثر زبائنه وزادت أرباحه.
بركة الأمانة والتقوى
وبعد بضعة أشهر، بينما كان يرتاح في غرفته بعد الغداء، وقد استلقى على قفاه وأخذ ينظر إلى السقف، ويفكر في أحواله، منذ أن كان يتيماً في دمشق إلى ما صار إليه أمره هنا في القاهرة، ويشكر الله تعالى ويحمده على ما أنعم به عليه، حانت منه التفاتة إلى نافذة علوية في الجدار، فرأى قطعة من الجلد الأسود تتدلى منها، فارتاب فيها، وأتى بكرسي ووقف عليه، ومد يده إلى الجلدة وسحبها، وإذا بها هميان طويل، أسود اللون، ثقيل الوزن، تسمع منه خشخشة النقود، فنظر إليه فوجده يشبه الهميان الذي وجده في مكة المكرمة، فاندهش واستغرب، ونادى على حماته في الحال، فأتت مسرعة وقالت:
ماذا تريد يا بني؟
قال:
ما شأن هذا الهميان؟ ولمن هو؟ ومن وضعه هنا؟
فلما رأت الهميان في يده ارتبكت، وبكت قليلاً، ثم جلست وقالت له:
يا بني، هذا الهميان لعمك والد زوجتك رحمه الله تعالى، وقد كان رجلاً تقياً صالحاً، مستجاب الدعوة، ذهب في هذه السنة إلى الحج، وأخذ معه هذا الهميان، احتياطاً، لعله يحتاج إليه، لأن سفر الحج طويل كما تعلم، وفي مكة المكرمة ضاع منه هذا الهميان دون أن يشعر به، فنادى عليه، فرده إليه رجل شامي، وقد توسم عمك الصلاح والتقوى في ذلك الرجل؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما رد إليه الهميان، لذلك دعا له في حجر إسماعيل أن يصبح صهره لكي يعطيه الهميان كله فيكون ملكاً له. وعندما عاد عمك رحمه الله تعالى من الحج حكى لي هذه القصة، وقال: أنا لا أشك أن الله سيستجيب لي ويجعل ذلك الرجل زوجاً لابنتي، لذلك سأضع الهميان في هذه النافذة العلوية فإياك أن تلمسيه أو يلمسه أحد، لأنه ليس ملكنا، وإنما هو ملك ذلك الرجل. ولكن الظاهر أن الله لم يستجب دعوة عمك هذه المرة، لأن ذلك الرجل لم يأت ليتزوج ابنة عمك، وإنما تزوجتها أنت.
فقال لها:
والله يا امرأة أنا ذلك الرجل الذي وجد الهميان ورده إلى عمي، ودعا لي في حجر إسماعيل، وفي هذا الهميان ألف دينار عدها عمي رحمه الله تعالى أمامي، ثم أفرغ الهميان أمام حماته وعد دنانيره؛ فإذا بها ألف دينار كما كانت فقال: سبحان الله والحمد لله الذي لا يضيع أجر المحسنين، وقد استجاب الله تعالى دعوة عمي رحمه الله تعالى.
نهاية القصة
وبعد ذلك توسعت أعمال الشاب وتجارته حتى أصبح من كبار تجار مصر وأنشأ مصنعاً كبيراً للنسيج. وعندما صدرت قرارات التأميم في مصر، في سنة (١٩٦١م) أمموا مصنعه وتجارته، فانتقل هو وعائلته إلى بيروت، وأنشأ فيها تجارة وصناعة ناجحة من جديد.
ثم قال إمام مسجد الفرقان: وقد زرته ببيروت منذ بضع سنوات؛ حيث كان لا يزال حياً يرزق.
العبرة من القصة
إن الله لا يضيع أجر المحسنين الصالحين، وسينالون جزاءهم في الدنيا ولو بعد حين، كما سينالون في الآخرة الأجر والثواب من الله تعالى رب العالمين.