ذكر القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، عن شيخ من التجار، قال: كان لي على بعض الأمراء في بغداد مال كثير، فماطلني ومنعني حقي، وجعل كلما جئته أطالبه حجبني عنه، وأمر غلمانه بإيذائي، فاشتكيت إلى الوزير فلم يفد شيئاً، واشتكيت إلى أولياء الأمر من الدولة فلم يفيدوا شيئاً أيضاً، فأيست من المال، وجلست كثيباً محزوناً، أندب حظي وأجتر آلامي، وإذا برجل من أصحابي يسألني عن سبب حزني واكتئابي، فأخبرته بخبري مع ذلك الأمير، وكيف أكل أموالي، ولم تجد الشكاوى والتوسلات، ففكر صاحبي قليلاً ثم قال:
هل أتيت فلاناً الخياط؟
قلت:
لا، لم آته، وما عسى الخياط أن يفعل مع هذا الأمير الذي عجز عنه الوزراء ورجال الدولة كلهم؟!..
قال:
أنا أنصحك أن تأتيه، لعله يستطيع أن يحصل لك مالك.
قلت:
أين أجده؟
قال:
هو إمام المسجد الذي يقع بالقرب من قصر الخليفة المعتضد.. صل عنده وقص عليه قصتك.
تدخل الخياط المجهول
يقول التاجر: ذهبت إلى المسجد المذكور، وأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، فماذا يستطيع خياط مسكين، إمام مسجد، أن يصنع مع أمير عات ظالم؟! وصليت في المسجد، وبعد الصلاة اقتربت من الإمام، فوجدته شيخاً ضعيفاً مسكيناً!.. سلمت عليه، وسألته:
هل أنت الخياط فلان؟
قال:
نعم، ما شأنك؟
فسكت وصرت أفكر: أهذا الشيخ المسكين الضعيف يستطيع أن يستخلص لي حقي من ذلك العاتي الجبار؟!.. وهممت أن أسلم عليه وأنسحب بسلام خشية من أن أورطه في شيء لا طاقة له به. ولكن صوته رن في أذني مرة ثانية:
ما شأنك أيها الرجل؟
فقصصت عليه قصتي كلها مع ذلك الأمير الظالم، وكنت أتوقع أن يقول لي: لا طاقة لي به.. ولكنني فوجئت به يقول لي:
دلني على بيته.
فقلت له:
يا شيخنا إن عنده غلماناً أتراكاً أشداء، أخشى أن يؤذوك، وأنت لا تتحمل ذلك.
قال:
قلت لك: دلني على بيته، ولا شأن لك بي بعد ذلك.
فسلمت أمري إلى الله تعالى، وذهبت معه ودللته على بيته، فتقدم هو وطرق الباب، وتواريت أنا بالجدار خوفاً من أن ينالني شيء من الأذى. وفتح غلام الباب، فلما رآه الخياط، قال له:
أبلغ سيدك أن الخياط فلاناً بالباب يريد أن يراك.
فلم يمض إلا قليل حتى خرج الأمير مرحباً ومسلماً، وقال للخياط:
تفضل يا سيدي إلى الداخل، ما وقوفك هنا؟
فأجابه الخياط:
لا أريد الدخول، وإنما جئتك في حاجة لتقضيها.
فقال:
حاجتك مقضية، قل ما هي؟
فناداني الخياط، فظهرت أمام الأمير، ولما رآني اصفر وجهه، وتلعثم لسانه. فقال له الخياط:
هذا الرجل له حق عندك؛ فأد إليه حقه كاملاً الآن.
فأخذ الأمير يبربر بنعم، وأمرك، وحالاً، والآن، وسألني:
كم لك عندي؟
فقلت له:
كذا وكذا من آلاف الدنانير.
فدخل إلى بيته، وغاب، ثم عاد ومعه الغلمان يحملون أكياس الدنانير، ووضعوها أمامي. قال لي الخياط:
عدها.
فعددتها ووجدتها كاملة غير منقوصة. فقال لي الخياط:
احملها وهيا بنا.
فحملتها وسرت وأنا أحتمي بظل الخياط، وأنظر ورائي خشية من أن يهجم علي غلمان الأمير ويأخذوا مني الدنانير مرة أخرى وأنا لا أكاد أصدق ما تم وما حدث، وأتلمس الدنانير بين الفينة والفينة لأتأكد أنني في علم وليس في حلم.
سر قوة الخياط
وما أن ابتعدنا قليلاً عن بيت الأمير واطمأننت على سلامتي وسلامة الدنانير، حتى التفت إلى الخياط وقلت له:
يا سيدي! إنني أشكرك غاية الشكر على ما فعلته من أجلي، فقد عجز الوزراء وأولياء الأمور كلهم عن تحصيل حقي، وحصلته لي أنت كاملاً، فبالله عليك، ما سر خوف هذا الأمير منك، وأنت رجل شيخ مسكين كما أرى؟!..
قال:
إن كنت تريد أن تعرف سر ذلك، فاذهب معي إلى دكاني في السوق لأقص عليك قصتي فيها، فقد طال غيابي عنها.
فذهبت معه إلى الدكان، وبعد أن جلسنا واسترحنا قليلاً التفت إلي وقال:
أنا شيخ ضعيف مسكين، كما قلت أصلي إماماً في المسجد الكائن قرب قصر المعتضد بالله أمير المؤمنين، ولكنني لا أستطيع السكوت عن المنكر، ولو كان في ذلك ذهاب نفسي، هكذا خلقني ربي.
وقفة في وجه الظلم
في أحد الأيام منذ سنة أو أكثر، صليت المغرب إماماً في المسجد، وخرجت بعد انتهاء الصلاة أريد الذهاب إلى بيتي. وإذا بامرأة تخرج من الحمام القريب من المسجد وهي ترتدي ثياباً فاخرة. وكان ثمة قائد تركي يجلس على باب بيته القريب من المسجد أيضاً، هو وغلمانه، وما أن رأى المرأة حتى أشار إلى غلمانه، فهجموا عليها وأخذوا يسحبونها إلى بيت قائدهم، وهي تصيح وتستغيث بالمسلمين أن ينقذوها من هذا البلاء، وهي تقول:
أنا امرأة شريفة طاهرة، وقد حلف زوجي إن تأخرت في العودة إلى البيت أكن طالقاً.
وعندما سمعت ذلك ثارت الحمية في رأسي وهجمت على الغلمان الأتراك أريد استخلاص المرأة منهم، وصاروا هم يسحبونها إلى البيت، وأسحبها أنا إلى الخارج، ولكنهم تغلبوا علي وأدخلوا المرأة إلى البيت ورموني خارجه وأغلقوا الباب. وبعد أن استرددت روعي قليلاً، قلت لنفسي:
كيف يحدث هذا؟! امرأة شريفة تنتهك حرمتها غصباً عنها، وتطلق من زوجها، هذا لا يمكن أن يكون.
فكرة لإنقاذ المرأة
فنهضت وصرت أصيح بالمسلمين الخارجين من المسجد والمارين في الطريق، وأستحثهم على استخلاص هذه المرأة المظلومة من براثن هؤلاء الظالمين، فاستجابوا لي، فذهبنا جميعنا وطرقنا باب القائد التركي، ففتح غلمانه الباب، وعندما رأوني والناس من حولي صاحوا بسيدهم وحملوا علينا بالعصي والدبابيس وحمل قائدهم علي من دون الناس بدبوس كبير في يده، وانهال علي ضرباً ولكماً حتى شج رأسي وأسال دمي، فارتميت على الأرض مغمى علي، وهرب الناس من حولي. ودخل القائد وغلمانه بيتهم وأغلقوا الباب عليهم.
وبعد أن هدأت نفسي قليلاً، وعادت إلي بعض قوتي، تحاملت على نفسي ونهضت وذهبت إلى بيتي القريب من المسجد، فغسلوا الدماء عن رأسي ووجهي وثيابي، وضمّدوا جروحي، واضطجعت لأنام. ولكنني لم أستطع، فصورة المرأة المظلومة وهي تستغيث بالمسلمين، لم تنفك عن خاطري، ولم تتركني أهدأ أبداً، كيف يحدث هذا أمام سمعي وبصري، وأنا لا أزال حياً؟!.. ولكن ماذا أستطيع أن أفعل أكثر مما فعلت؟!.. وفجأة خطرت لي فكرة نفذتها على الفور، خطر لي أن أؤذن أذان الفجر في هذا الوقت من الليل، لعل القائد التركي يسمع الأذان فيظن أن الفجر قد بزغ، فيخلي سبيل المرأة لتذهب إلى بيتها قبل أن يقع عليها الطلاق.
مواجهة الخليفة
فنهضت وأخذت مفاتيح المسجد وأسرعت إليه ففتحته، وصعدت إلى المئذنة، وأذنت أذان الفجر، وأنا أنظر إلى باب القائد التركي لعله يفتح وتخرج منه المرأة المخطوفة. ولكن الباب لم يفتح، فهممت أن أؤذن أذان الإقامة للصلاة، ولكنني فوجئت بباب قصر الخليفة المعتضد يفتح ويخرج منه حرس كثيرون بيدهم المشاعل حتى امتلأت الساحة بهم، وصاح كبيرهم:
من الذي يؤذن في هذا الوقت من الليل؟
فخفت وسكت ولم أجب، فعاد كبير الحرس يصيح:
من الذي يؤذن في هذا الوقت من الليل؟
فتشجعت وقلت على خوف ووجل واستحياء:
أنا يا سيدي.
فقال:
انزل وأجب أمير المؤمنين، فإنه قد سمع أذانك الآن فأمرنا بإحضارك بين يديه.
فازداد خوفي واضطرابي، لأن المعروف عن المعتضد أن سيفه قبل كلمته! ولكنني نزلت مضطراً وأنا أرتجف من الخوف، فأخذوني من يدي، وأدخلوني قصر الخليفة، وأحضروني بين يديه. وكان الخليفة المعتضد جالساً في صدر المجلس يسمر هو ووزراؤه وندماؤه، وعندما رآني صاح بي:
لماذا أذنت في هذا الوقت من الليل؟!.. فالفجر لم يبزغ بعد، وبأذانك تغش الناس، فالنائم ينهض يظن أن الفجر قد بزغ والصائم يمسك عن الطعام والشراب، والقائم يتوقف عن الصلاة، والعامل يتهيأ للصلاة ثم للذهاب إلى العمل، فلماذا أذنت؟ ولماذا تغش الناس؟..
فسكت ولم أجب، وقد ازداد ارتجافي واضطرابي، ولما رأى الخليفة حالتي، قال لي:
هون عليك يا رجل، اجلس، اجلس واسترح، وهدئ من روعك، فأنا لا أريد بك شراً، وإنما أريد معرفة سبب أذانك في هذا الوقت من الليل.
قرار الخليفة الصارم
فجلست حتى هدأ روعي، وعند ذلك أعاد علي السؤال:
لماذا أذنت في هذا الوقت؟
فقلت له:
هل تعطيني الأمان لأتكلم؟
فقال:
تكلم، ولك الأمان.
فقصصت عليه قصة المرأة والقائد التركي من أولها إلى آخرها وأريته جروح رأسي وأثر الدماء على شعري وثيابي. وعندما سمع ذلك غضب غضباً شديداً، وقال:
أيحدث هذا في ملكي وأنا لا أدري؟!.. إن كان حقاً ما تقول سأريك ما أفعل، وإن لم يكن حقاً فسأقطع رأسك.
ثم صاح على صاحب الشرطة فحضر، فقال له:
خذ هذا الرجل وخذ معك ثلة من الحرس واذهب إلى البيت الذي يدلك عليه، وادخلوه مهما كان مركز صاحبه وفتشوه، فإن وجدتم فيه امرأة مخطوفة فأتوا بها وبصاحب البيت.
فذهب صاحب الشرطة ومعه ثلة من الحرس وذهبت معهم، وأنا أخشى أن يكون القائد التركي قد خلى سبيل المرأة فيظنني الخليفة كاذباً فيقطع رأسي، ودللتهم على البيت فطرقوا الباب، وعندما فتح دخلوا دون استئذان وأخذوا يفتشون البيت وأنا معهم، إلى أن عثرنا على المرأة المخطوفة في إحدى الغرف، وعندما رأتني عرفتني فأخذت تصيح وتستغيث بي، فهدأها رئيس الحرس وأخذها واقتاد معها صاحب البيت، القائد التركي وعدنا جميعنا إلى مجلس الخليفة، وعندما رأى الخليفة المرأة سألها عن شأنها، فأخبرته بقصتها كما قصصتها أنا عليه، وتأكد بذلك من صدقي.
الخياط يصبح نصيراً للمظلومين
فغضب غضباً شديداً حتى احمرت عيناه، والتفت إلى القائد التركي وقال له:
أما تستحيي؟! أما تخاف الله تعالى؟! كيف تنتهك حرمات الناس وتعتدي على أعراضهم؟ كم راتبك في الشهر؟
قال:
كذا ألف من الدنانير.
قال:
كم زوجة عندك؟
قال:
أربع زوجات.
قال:
وكم جارية عندك؟
قال:
كذا جارية.
قال:
كل ذلك لا يغنيك عن الحرام؟!.. أنت رجل فاسد يجب بتره.
وأمر به أن يوضع في كيس من الخيش وأن يضرب بالمخابط حتى يموت، فوضع وضرب حتى همد ومات وأنا أنظر إليه، ثم أمر به أن يرمى على باب بيته ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه الاعتداء على حرمات الناس.
ثم أمر صاحب الشرطة أن يأخذ المرأة إلى زوجها وأن يوصيه بها خيراً لأنها بريئة ومظلومة.
ثم قال لي:
قد وليتك الحسبة في بغداد، كلما رأيت منكراً غيره، وإن لم تستطع فأذن في غير وقت الأذان، وهكذا منذ ذلك الوقت وأنا أنصر المظلومين وآخذ لهم حقوقهم.
رحم الله تعالى ذلك الخياط الضعيف المجهول في أهل الأرض، المعروف في أهل السماء، وكثر من أمثاله بين المسلمين. ولعل المثلين الشعبيين اللذين يقالان في بلدي حماة: «لا أعمله ولو أذنت» و«لا أعمله ولو صعدت إلى المئذنة» أصلهما هذه الحكاية. والله أعلم.