شيخ ضعيف نحيل، يتلمس طريقه في الليل المظلم قبيل الفجر، يمشي في شوارع مكة المكرمة المفروشة بالرمال يعتمد على عصاه، يريد أن يصل إلى الحرم قبل بزوغ الفجر ليصلي بضع ركعات من سنة التهجد. ويحمل في يده اليسرى قربة فارغة من الجلد، وطاستين من النحاس. فبعد أن يصلي التهجد سوف يملأ القربة من ماء زمزم، ويدور بها على الحجاج الذين أخذوا يأتون من جميع البلاد الإسلامية لأداء فريضة الحج في ذلك العام، عام (٢٥٠ هـ)، وكان الشهر ذا القعدة في العشر الأخير منه، وقد اقترب موعد الحج.
وكان الشيخ يسقي الحجاج من ماء زمزم فيجودون عليه ببعض الدراهم، يأخذها ويشتري بها طعامًا لزوجته وبناته التسع اللواتي ينتظرنه في البيت، وهو بيت قديم متهدم، حتى إنه ليس له باب من الخشب، وإنما وضع الشيخ مكان الباب قطعة من الخيش القديم لتفصل داخل البيت عن خارجه، لأنه ليس معه ثمن باب من الخشب، فهو رجل ضعيف فقير يعيش مما يجود عليه به المحسنون والحجاج.
وسار الشيخ في الشوارع الضيقة المظلمة، فلم يكن في ذلك الزمن كهرباء ولا مصابيح تضيء الشوارع، ولم تكن الشوارع معبدة، وإنما كانت مفروشة بالرمال. وفجأة تعثر الشيخ في سيره وسقط، فاستعاذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ولملم ثيابه البالية ونهض، ولكنه شعر بأن شيئًا قاسيًا يلتف حول رجله هو الذي سبب تعثره وسقوطه، فتناوله في الظلام؛ فإذا به حزام أسود من الجلد (هميان) ثقيل، وعندما حمله سمع له خشخشة. فأخذه وعاد به إلى البيت.
صراع داخلي بين إغراء الشيطان ووازع الإيمان
وكانت زوجته وبناته ما زلن في نومهن، فأشعل شمعة في جانب البيت وفتح الحزام؛ فإذا هو مملوء بالدنانير الذهبية، فعدها فوجدها ألف دينار، فأعادها إلى الحزام، وحفر حفرة في أرض البيت ووضع فيها الحزام ثم عاد يمشي إلى المسجد الحرام.
وفي الطريق صار يوسوس له الشيطان ويقول: أنت رجل فقير، وصابر، وقد أرسل الله هذا المال إليك جزاء صبرك؛ فخذه وتنعم به، عمّر به بيتك المتهدم، واشتر به ثيابًا جديدة لك ولزوجتك وبناتك، واشتر طعامًا طيبًا، لحمًا وأرزًا وتمرًا، فأنت لم تذق اللحم أنت وعائلتك منذ سنة، واشتر دكانًا اشتغل فيها بالتجارة؛ فقد أصبحت ضعيفًا لا تستطيع حمل قربة الماء لتسقي الحجاج منها.
هكذا كان يقول له الشيطان ليزين له أخذ المال دون حق، ولكن إيمانه كان يقول له: هذا المال ليس لك ولا من حقك، وله صاحب هو أحق به منك، وإذا أخذته فإن الله مطلع عليك، وسيعذبك عليه عذابًا شديدًا في الدنيا والآخرة، فهل تريد أن تعيش من المال الحرام أنت وعائلتك؟!.
بحث الخراساني عن المال المفقود
وصل إلى المسجد الحرام عند أذان الفجر، فصلى الصبح جماعة مع الإمام، وبعد الصلاة قام رجل خراساني (من خراسان)، أخذ ينادي ويقول: يا سامعين الصوت يا حجاج، يا مسلمون، إنني ضيعت حزامًا فيه ألف دينار، من وجده فليرده علي وله الأجر والثواب من الله تعالى.
فقام الشيخ وقال: وماذا تعطي من وجده؟
فقال الخراساني: لا أعطيه شيئًا، بل له الأجر والثواب من الله تعالى.
فجلس الشيخ، وجلس الخراساني.
وبعد الصلاة ملأ الشيخ قربته من ماء زمزم، وأخذ يسقي الحجاج فيجودون عليه بدراهم قليلة، وبعد شروق الشمس أخذ الشيخ قربته الفارغة والدراهم، وذهب فاشترى بها طعامًا لزوجته وبناته، وعاد إلى بيته لكي يستريح قليلًا، وكان يأمل أن يعطيه الخراساني ولو عشرة دنانير فقط من ألف الدينار، ويرد إليه الحزام ويتخلص من هذه الورطة التي وقع فيها، ولكن الخراساني أبى أن يعطيه شيئًا.
الشيخ يتمنى التخلص من الحزام
وفي اليوم الثاني ذهب الشيخ إلى الحرم قبيل الفجر كعادته ليصلي التهجد والصبح، وليسقي الحجاج من ماء زمزم.
وبعد صلاة الصبح قام الخراساني مرة ثانية ونادى: يا مسلمون يا حجاج يا سامعين الصوت، يا من رأى حزامًا فيه ألف دينار، فليرده إليَّ وله الأجر والثواب من الله تعالى.
فقام الشيخ وقال له: وماذا تعطي من وجده؟
فأجابه الخراساني: لا أعطيه شيئًا، بل له الأجر والثواب من الله تعالى.
فجلس الشيخ وجلس الخراساني أيضًا. وبعد أن سقى الشيخ الحجاج من ماء زمزم واشترى بما حصل عليه من الدراهم طعامًا لعائلته، عاد إلى بيته لكي يستريح، وقال لنفسه: لو أن الخراساني أعطاني دينارًا واحدًا فقط، لكنتُ أعطيته الحزام، وتخلصت منه، لأنني أصبحت أشعر بأنه حمل ثقيل فوق أكتافي، فالشيطان يوسوس لي دائمًا لكي آخذه كله فأبني به بيتي وأشتري ثيابًا وطعامًا، وأفتح دكانًا للتجارة، وهو يوسوس لي الآن بأن هذا الخراساني رجل بخيل جدًا لا يستحق أن أرد له هذا الحزام الممتلئ بالدنانير.
ولكن كيف أضيع كل هذه السنين التي قضيتها في الصلاح والتقوى والصلاة والصيام والحج في كل عام، هل أضيع كل ذلك وما يتبعه من جنة عرضها السموات والأرض، أعيش فيها خالدًا في سعادة وهناء من أجل ألف دينار؟!.
إنني لن أضيعها إن شاء الله تعالى ولو بملء الأرض ذهبًا، لذلك أريد أن أتخلص من هذا الحزام الثقيل كيفما كان؛ لكي أتخلص من وسوسة الشيطان اللعين.
الشيخ يرد الحزام لصاحبه الخراساني
وفي اليوم الثالث ذهب الشيخ إلى الحرم كعادته في كل يوم، وهو ينوي أن يرد الحزام إلى الخراساني، ولو كان بغير مقابل.
وبعد صلاة الصبح قام الخراساني كعادته في كل يوم، ونادى بأعلى صوته: يا مسلمون، يا حجاج يا سامعين الصوت، إني ضيعت حزامًا فيه ألف دينار، فمن وجده فليرده علي وله الأجر والثواب من الله تعالى.
فقام الشيخ وقال له: حزامك عندي، اذهب معي إلى البيت لأعطيك إياه.
وعند ذلك شعر الشيخ كأن حملًا ثقيلًا كان على كتفه وانزاح عنه، فهو سيتخلص بعد قليل من هذا الحزام الثقيل ووسوسة الشيطان اللعين.
الخراساني يرى فقر الشيخ المكي المدقع
وسار الخراساني مع الشيخ إلى البيت وفي الطريق نظر الخراساني إلى الشيخ المكي فوجده شيخًا كبيرًا، نحيلًا، ضعيفًا، أصفر الوجه، يجر رجليه جرًا من شدة الضعف، ثيابه بالية مرقعة، فقال في نفسه: ما أشد فقر هذا الرجل!. إنني لم أر أشد فقرًا منه في مكة المكرمة.
وعندما وصلوا إلى البيت نظر الخراساني فوجد بيتًا من اللبن والطين، متهدمًا، ليس له باب وإنما وضعوا قطعة من الخيش القديم بدلًا من الباب، يحركها الهواء كيف يشاء، وسقفه من أوراق النخيل اليابسة، إذا نزل المطر عليها تسرب أكثره إلى داخل البيت وسقط على الجالسين فيه.
دخل الشيخ إلى البيت وقال لزوجته وبناته: إن معي ضيفًا.
فتكوموا جميعهم فوق بعضهم في زاوية البيت.
ودخل الخراساني إلى البيت فوجد بيتًا فقيرًا خاليًا من كل شيء، ليس فيه إلا قطعة حصير بالية، وقطعة بساط ممزقة، وتسع بنات مع أمهن في زاوية البيت، ثيابهن بالية، فيها رقع كثيرة ووجوههن صفراء من قلة الطعام والغذاء، فقال في نفسه: ما أشد فقر هذا البيت وهذه العائلة!.
الخراساني يكافئ أمانة الشيخ
وذهب الشيخ إلى إحدى زوايا البيت فحفر الأرض وأخرج الحزام، ولما رآه الخراساني قال: هذا هو حزامي، وأخذه وفتحه وأخرج الدنانير منه ووضعها على الأرض، فلمعت في ظلام البيت، وتطلع إليها البنات مشدوهات كأنهن لم يشاهدن دنانير ذهبية قط!. وعد الخراساني الدنانير فوجدها ألف دينار، فقال للشيخ: هذه دنانيري كاملة، جزاك الله تعالى خيرًا، وأعادها إلى الحزام ثم أغلقه وحمله وانصرف خارجًا من البيت.
وما إن خرج الخراساني من البيت حتى هجمت الزوجة والبنات على الشيخ يصرخن به، ويقلن: ألا ترى حالنا وجوعنا وعرينا؟! أما كنت تستطيع أن تأخذ ولو دينارًا واحدًا، نشتري به لحمًا وثيابًا وبابًا لبيتنا؟!.
والشيخ لا يزيد على أن يقول: إن الله لا يضيع أجر المحسنين، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. هل تردن أن نأكل الحرام؟!.
الشيخ يحصل على مكافأة الصبر والأمانة
وبينما هم كذلك في داخل البيت، إذ سمعوا صوت الخراساني في الباب يدعو الشيخ ويقول: يا شيخ يا شيخ.
فسكتت البنات عند ذلك، وخرج الشيخ ليرى ما يريده الخراساني، فوجده واقفًا بالباب وبيده الحزام، وعندما رأى الشيخ؛ قال له: هذا الحزام ليس لي، وإنما هو لأخي، أعطاني إياه عندما علم أنني ذاهب إلى الحج، وأوصاني أن أعطيه إلى أفقر رجل أجده في مكة المكرمة، وأنا والله لم أجد رجلًا أشد فقرًا منك؛ فخذه فهو لك كله.
فلم يصدق الشيخ ما سمع، وكاد أن يغمى عليه ويسقط على الأرض، فأمسك به الخراساني وأجلسه حتى استعاد وعيه، فأعطاه الحزام وسلم عليه وذهب.
وأخذ الشيخ الحزام ودخل إلى البيت وهو يبكي من الفرح، ورمى بالحزام أمام المرأة والبنات وقال لهن: كنتن تردن أن تأخذن دينارًا واحدًا حرامًا، فأعطاكن الله ألف دينار حلالًا: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: ٩٠].
وبعد أن استراح الشيخ قليلًا أخذ بعض المال واشترى طعامًا وثيابًا جديدة، ثم جدد بناء البيت واشترى دكانًا وبضاعة، وصار يشتغل بالتجارة حتى أصبح من كبار الأغنياء بفضل صلاحه وتقواه.
العبرة من القصة
المكافأة والجزاء يكونان على قدر البلاء والصبر.