كان يا ما كان يا سامعين يا كرام، كانت تعيش بطتان وسلحفاة قرب أحد الأنهار الصغيرة، وكان العشب طويلا غزيرا حول النهر، وكان ماء النهر غزيرا قويا، فكانت البطتان والسلحفاة تسبح معا في النهر، وتخرج معا إلى شاطئه، تتمتع بأشعة الشمس الدافئة، وكانت البطتان تأكلان من الأعشاب النامية حول النهر، ومما تجدانه في النهر من فضلات، وكانت السلحفاة تأكل الحشرات التي تجدها في النهر، وتأكل أيضا من الأعشاب النامية حوله.
وهكذا قويت الصداقة بين البطتين والسلحفاة، وما عدن يستطعن الافتراق عن بعضهن، وعشن مدة طويلة بأحسن حال.
صداقة يهددها الجفاف والبحث عن موطن جديد
ولكن هذه الدنيا لا يدوم لها حال، ففي إحدى السنين قلت الأمطار، فأخذت مياه النهر تقل أيضا شيئا فشيئا حتى كادت الأعشاب أن تجف تماما، ويبست حول النهر، وقل غذاء البطتين والسلحفاة، وعضهن الجوع، فتشاورن مع بعضهن: كيف الحل؟ وكيف الخلاص من هذه المشكلة؟ واتفقن أن تطير كل يوم إحدى البطتين لتفتش عن مكان آخر يذهبن إليه. وهكذا صارت تطير كل يوم إحدى البطتين، تفتش عن مكان مناسب، وتعود في المساء قائلة:
“لم أجد مكانا مناسبا، فالأنهار كلها جفت بسبب قلة الأمطار”.
وفي أحد الأيام طارت إحدى البطتين وغابت مدة طويلة، ولم تعد بعد غياب الشمس بوقت طويل، ومنذ وصولها قالت لهن:
“أبشرن؛ فقد وجدت مكانا مناسبا، فيه نهر غزير وعشب طويل، وليس فيه أحد من الحيوانات، ولكنه بعيد في تلك الجبال العالية البعيدة..” ففرحن أولا بوجود المكان.
خطة مبتكرة للتغلب على عقبة الرحيل
ولكن بعد ذلك ظهرت لهن مشكلة جديدة ليس لها حل؛ فالمكان بعيد في الجبال العالية والسلحفاة لا تستطيع السير كل هذه المسافة الطويلة، بل إنها تموت قبل أن تصل إلى هناك.
وقالت السلحفاة للبطتين: “كيف تتركانني وحيدة هنا أموت حزنا عليكما وجوعا وعطشا؟ أين ذهبت صداقتنا والعيش والملح الذي بيننا؟!”
فقالت البطتان: “صدقت، يجب ألا نتركك وحدك هنا، ويجب أن نجد حلا لهذه المشكلة، فكري معنا.”
وفجأة صاحت إحدى البطتين: “وجدتها!”
فقالا لها: “ماذا وجدت؟”
قالت: “وجدت وسيلة لنقل صديقتنا السلحفاة معنا إلى ذلك المكان البعيد.. فتشا معي عن عصا طويلة قوية.”
قالا: “وماذا نعمل بها؟”
قالت: “فتشا عنها وبعد ذلك أقول لكما.”
فأخذا يفتشان عن العصا حتى وجدا عصا طويلة قوية، فقالت لهما: “هذه العصا سأقبض عليها أنا بمنقاري من أحد طرفيها، وتقبض البطة الثانية بمنقارها على الطرف الآخر، وتعض السلحفاة بفمها على منتصف العصا.. وهكذا نطير بالعصا والسلحفاة عالقة بها حتى نصل إلى ذلك المكان البعيد، ولكن هناك شرط مهم جدا لكي نصل جميعنا سالمين، وهو ألا تفتح السلحفاة فمها مطلقا طوال الطريق، وألا تنطق بحرف واحد لأنها متى فتحت فمها ستقع على الأرض وتموت..” فوافقت السلحفاة على ذلك.
الرحلة الجوية ونهاية مأساوية
وهكذا حملت البطتان العصا، وعضت السلحفاة عليها من وسطها، وطارا بها نحو ذلك المكان البعيد، وكان طريقهن فوق إحدى المدن فنظر الناس إلى السماء فوجدوا بطتين طائرتين وبينهما سلحفاة، فصاروا يصيحون: “يا للعجب! بطتان وبينهما سلحفاة! بطتان وبينهما سلحفاة! بطتان وبينهما سلحفاة!”
وسمعتهم السلحفاة فغضبت وحبست غضبها أولا لكي لا تفتح فمها، وأخيرا ضاق صدرها ولم تستطع السكوت، ففتحت فمها لتقول لهم: “فقأ الله عيونكم أيها الناس!”
وحالما فتحت فمها سقطت على الأرض وتحطمت وماتت.
أرأيت يا بني، كيف أن الكلام قد يكون فيه الهلاك أحيانا إذا كان لا لزوم له، فالكلام كالدواء القليل منه مفيد والكثير منه فيه الهلاك والموت.