قالت لي جدتي – رحمها الله – يوما: “يا بني! إياك أن تخلف وعدا وعدته، وإياك أن تخون أمانة حملتها، وإياك أن تؤخر وفاء دين عليك، فإن الله سبحانه يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين. واسمع هذه القصة التي حكاها سيدنا محمد لأصحابه، فقال ما معناه:”
كان فيما مضى رجل يعمل في التجارة، فاشترى بضاعة ليبيعها في مدينة أخرى ويربح بها، ولكن نقص عليه ألف دينار من ثمن البضاعة، ففكر كيف يعمل، وأخيرا قرر أن يذهب إلى صديق له ويستدين منه ألف دينار ليسدد ثمن البضاعة.
فذهب إليه وطلب منه أن يعطيه ألف دينار دينا لمدة ستة أشهر، فوافق صديقه على ذلك، ولكن قال له: “أريد شاهدا على ذلك.”
فقال الرجل: “الله سبحانه شاهد على ذلك.”
فقال صديقه: “لقد رضيت بالله تعالى شاهدا، ولكن أريد كفيلا يكفلك لأجل وفاء الدين.”
فقال الرجل: “الله سبحانه كفيلي.”
فقال صديقه: “لقد رضيت بالله كفيلا.” وأعطاه ألف الدينار.
فأخذها الرجل ودفع ثمن البضاعة، وحملها في إحدى السفن، وذهب بها إلى مدينة أخرى ليبيعها هناك. وفي تلك المدينة باع الرجل بضاعته وربح بها كثيرا، وحمد الله سبحانه على ذلك.
رسالة في خشبة عابرة للبحر
ولكنه حينما أراد أن يعود إلى مدينته الأولى لم يجد سفينة تأخذه إليها، وصار يخرج كل يوم إلى ساحل البحر ليجد سفينة تحمله فلا يجد، حتى مضت مهلة ستة الأشهر. وجلس الرجل على الساحل وصار يفكر: ماذا يصنع؟
ورأى وهو جالس قطعة من الخشب بجانبه، فأخذها وحفر فيها جيبا ووضع فيه ألف دينار مع ورقة كتبها إلى صديقه قال فيها: “هذه ألف الدينار التي استدنتها منك، وإنني لم أجد سفينة تحملني لكي أعطيك إياها في الموعد الذي اتفقنا عليه، لذلك وضعتها في هذه الخشبة ورميتها في البحر، ودعوت الله الذي رضيت به كفيلا لي أن يوصلها إليك.”
ثم سد الخشبة سدا جيدا بالخشب والصمغ، ونظر إلى السماء وقال: “يا الله إن صديقي قد رضي بك شاهدا وكفيلا، فأوصل هذه الأمانة إليه.” ورمى الخشبة في البحر ورجع إلى بيته.
وكان صديقه عندما مضت مهلة ستة الأشهر ولم يرجع الرجل، كان يخرج كل يوم إلى ساحل البحر، ويقف هناك وينظر لعل سفينة آتية من المدينة التي ذهب إليها الرجل فيكون هو فيها أو يسمع عنه خبرا.
وصول الأمانة وسعي المدين
وفي أحد الأيام، بينما هو واقف على ساحل البحر ينظر ويفكر؛ إذ رأى خشبة على سطح الماء يدفعها موج البحر حتى قذفها عند رجليه، فحملها فسمع خشخشة في داخلها، فأخذها معه إلى البيت ونشرها بالمنشار، فخرجت الدنانير منها، فعدها فوجدها ألف دينار، ووجد معها الورقة التي كتبها الرجل إليه، فحمد الله وقال: إنه نعم الكفيل ونعم الوكيل.
أما الرجل صاحب التجارة الذي أرسل ألف الدينار في الخشبة؛ فإنه لم يكتف بذلك، أي: لم يكتف بالتوكل فقط، بل صار يخرج كل يوم إلى ساحل البحر لعله يجد سفينة تنقله إلى بلده الأولى؛ لكي يعطي صديقه الدين الذي عليه؛ فقد لا تصل الخشبة إليه والدين أمانة، والأمانة يجب أن يؤديها الإنسان في الدنيا قبل أن يحاسبه الله حسابا عسيرا في الآخرة.
وأخيرا وجد سفينة نقلته إلى بلده الأولى، وأخذ معه ثمن البضاعة التي باعها وربح فيها كثيرا.
وفاء الدين الذي أداه الله
ومنذ أن وصل إلى البلد ذهب حالا إلى صديقه، وقال له: “والله يا صديقي إنني لم أجد سفينة تنقلني إلى هنا لكي أدفع لك الدين الذي علي في الموعد الذي اتفقنا عليه، وقد وصلت الآن إلى هنا وأتيت قبل أن أذهب إلى بيتي لكي أعطيك ألف الدينار التي استدنتها منك، وأنا أشكرك جدا على معروفك.”
فقال له صديقه: “يا أخي احفظ مالك معك؛ فإن الله قد أدى عنك الأمانة، ووصلني الدين في الخشبة التي ألقيتها في البحر.”
فحمدا الله سبحانه وشكراه، فهو نعم الكفيل ونعم الوكيل.
ثم قالت جدتي: “أرأيت كيف يساعد الله من يتوكل عليه؟! ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحك هذه الحكاية لأصحابه لكي يرموا أموالهم في البحر، ولكن لكي يعلموا أن الأمانة ثقيلة، وأن الدين ثقيل، ولكي يسعوا جهدهم لكي يؤدوا الدين في موعده، فهو يريد أن يعلمهم أن يتوكلوا وأن يسعوا في الوقت نفسه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: اعقل وتوكل. أي: اسع وتوكل.”