مسكينة هي الأم، تضحي في سبيل أولادها بالغالي والنفيس، ثم كثيرا ما يتنكرون لها إذا ما شبوا وكبروا!.. يعيش الولد في بطن أمه تسعة أشهر، يتغذى من دمها ثم ترضعه حولين كاملين من لبنها، تقاسمه طعامها، وتظلل عليه بجسمها، وكثيرا ما يؤرق ليلها ببكائه، وينفص عيشها بصراخه، لا تنام حتى ينام، ولا تفرح إلا إذا كان نشيطا مسرورا.
لذلك قرن الله رضاه برضا الوالدين، فقال جل شأنه: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾.
وحث النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على اكتساب رضا والديهم، فقال عندما سأله أحدهم:
يا رسول الله من أحق الناس بحسن الصحبة؟
قال:
«أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك.» (متفق عليه).
وقال أيضا:
«رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه قيل: من؟ يا رسول الله، قال: من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما، أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة.» (رواه مسلم).
وقال أيضا:
«من أحب أن يبسط له في رزقه ، وأن ينسأ له في أثره ، فليصل رحمه» (متفق عليه).
ولكن الإنسان عندما يشب ويكبر كثيرا ما ينسى ذلك كله، ينسى أين كان أثناء الحمل، وكيف ولد، وكيف تربى وعاش، وينسى كيف أنه كان لا يطيق فراق أمه في صغره، حتى إذا كبر وتزوج بارزها بالإساءة والعصيان.
الزوجة تطلب التخلص من الأم
يحكى أن رجلاً كانت له أم عجوز، وتزوج من فتاة شابة جميلة. ومنذ أن دخلت زوجته البيت كرهت أمه، ولم تتحملها، لا لسبب إلا لأنها عجوز تثرثر كثيرا، وتتكلم بسبب ودون سبب، وتتدخل بكل صغيرة وكبيرة من شؤون البيت، ومن شؤون ابنها صاحب البيت؛ فالزوجة تريد أن يكون هذا البيت لها وحدها لا يتدخل في شؤونه أحد، وتريد أن يكون زوجها لها وحدها لا يتدخل في شؤونه أحد، حتى ولو كانت أمه، ونسيت أن حماتها كانت صاحبة هذا البيت كله، فكيف تزيحها منه دفعة واحدة؟! وأن زوجها هو ابن هذه الحماة، حملته في بطنها، وغذته من دمها ولبنها، وربته كل شبر بنذر، كما يقال، فكيف تريد أن تستأثر به وحدها، وتقطعه من أمه بتاتا؟! ولم تفكر أنها ستصبح في يوم من الأيام حماة، وتأتيها كنة تعاملها كما تعامل هي حماتها الآن.
لذلك صارت تزن في أذن زوجها على أمه في كل ساعة من ساعات الليل والنهار، حتى جعلت حياته جحيما، وحتى جعلته يتغير على والدته، وينسى كيف ولد، ومن رباه وغذاه، ومن سهر عليه الليل، ومن كان يرعاه إذا مرض، ويطعمه إذا جاع، كما نسي قول الله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم، في الوصية بالوالدين، ونسي أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وأنه يستوجب العقاب في الدنيا والآخرة. نسي هذا كله أمام جمال زوجته ورضاها.
فقال لها:
ماذا تريدين أن أفعل بأمي؟
قالت له:
احملها في الليل وارمها في البرية حيث توجد وحوش كثيرة، فيأكلها أحد الوحوش ونتخلص منها، وإذا سئلنا عنها نقول: إنها امرأة خرفة، خرجت من نفسها في الليل، ولم نعلم بخروجها إلا في الصباح.
ندم الابن وعودة الوعي
وهكذا طلب الرجل من أمه أن تلبس ثيابها في الليل، فقالت له:
لماذا يا بني؟
قال:
سنذهب أنا وأنت إلى مكان جميل نسهر فيه ثم نعود.
فقالت له:
ألا تذهب زوجتك معنا أيضا لتتسلى معنا؟! حرام أن تبقى وحدها في البيت.
قال:
لا، لن نأخذها معنا هذه المرة.
ولبست الأم ثيابها، وخرجت مع ابنها وهي لا تدري ماذا يدبر لها، وأمسك ابنها بيدها، وسار بها في اتجاه البرية حتى أصبحوا بعيدين عن المدينة، وهم يسيرون في برية موحشة وظلام دامس، وحتى صاروا يسمعون عواء الذئاب ونباح الكلاب.
فقالت له أمه:
إلى أين نذهب يا بني؟ وأين ذلك المكان الجميل الذي حدثتني عنه، فقد أصبحنا في برية موحشة، فيها وحوش كثيرة؟!.
فقال لها:
اجلسي هنا يا أمي.
فجلست، وتركها وذهب، فصارت تصيح به وتناديه:
إلى أين تذهب وحدك يا بني لا يأكلك أحد الوحوش، فهنا توجد وحوش كثيرة؟!
ولكنه لم يرد عليها وتركها وحدها وسار.
وبعد قليل استيقظ ضميره وإيمانه، وتذكر قول الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾. فندم على ما فعل، وقال لنفسه: ماذا فعلت بأمي؟؟ وما الذنب الذي أذنبته معي؟! أهذا جزاؤها مني؟! لذلك عاد أدراجه إلى أمه بعد أن قلب ثيابه، وستر وجهه بالخمار لكي لا تعرفه أمه.
وعندما وصل إليها، ناداها بعد أن غير صوته:
لماذا تجلسين وحدك هنا في هذه البرية الموحشة أيتها المرأة؟
فقالت له وهي تبكي:
ابني وضعني هنا وذهب.
قال لها:
ولماذا تبكين؟
فقالت:
ابني ذهب وحده وأخاف أن يأكله أحد الوحوش، لذلك أبكي خوفا عليه.
قال لها:
أتخافين عليه وقد فعل بك ما فعل؟! ألا تغضبين عليه وتدعين عليه؟!
فقالت:
لا لا لا أدعو عليه أبدا، إن قلبي لا يطاوعني، إنه ابني وأنت لا تعرف قلب الأم.
عند ذلك كشف ابنها عن وجهه وقال لها:
أنا ابنك يا أمي، اذهبي معي لنعود إلى البيت الآن، وسامحيني فيما فعلته معك.
وعندما وصلا إلى البيت، فوجئت الزوجة بعودة حماتها مع زوجها، ولكن الزوج سارع إلى مخاطبة زوجته بقوله:
هذه أمي، ولن أتخلى عنها ولا عن رضاها أبدا، وعليك أن تختاري بين رضاها وبين الطلاق.
عند ذلك عادت الزوجة إلى رشدها واختارت العيش مع حماتها ورضاها لكي يرضى الله عنها وعن زوجها، وعاشوا جميعهم في حب وسلام. وهكذا قلب الأم يبقى دائما ممتلئا بالحب والرحمة للأولاد، ولو أساءوا إليها، حتى ضرب بها المثل، فقال الشاعر أحمد شوقي:
وإذا رحمت فأنت أم أو أب … هذان في الدنيا هما الرحماء
حكمة النبي سليمان
يحكى أنه في زمن سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام، تنازعت امرأتان في طفل رضيع كل واحدة منهما تقول: هذا ابني، أنا الذي حملته ووضعته وأرضعته. لم يكن لأية واحدة منهما شهود يشهدون بأن هذا الطفل طفلها، وأخيرا تحاكمتا إلى سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام، فسألهما هل لديهما شهود؟ فقالتا لا، عند ذلك سل سيفه، وقال:
سأقسم هذا الطفل بينكما نصفين بهذا السيف، لتأخذ كل واحدة منكما نصفا!
فسكتت إحداهما، وصاحت الأخرى:
كلا يا نبي الله، لا تقسمه، وأعطه كله للأخرى؛ فهو ابنها وليس ابني.
فقال سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام:
بل أعطيه كله لك؛ فأنت أمه وليست الأخرى، لأنها لو كانت أمه لخافت عليه أن يموت أو أن يؤذى.
رحلة الحج على الظهر
ويحكى أيضا: أن رجلاً كانت له أم عجوز مقعدة، لا تستطيع المشي، وأراد أن يحج، فطلبت منه أمه أن يأخذها معه لتحج هي أيضا، فلبى طلبها؛ مع أنه لا يجب عليها الحج لأنها مقعدة، ولكنه لبى طلبها لكي ترضى عنه وتدعو له؛ ولم يكن يوجد في ذلك الزمن سيارات ولا طائرات، ولم يكن مع الرجل ثمن دابة ليحج عليها هو وأمه، لذلك حمل أمه على ظهره وسار بها، وكلما تعب كان يجلس ليستريح، حتى وصلا إلى مكة المكرمة.
فطاف بأمه على ظهره حول الكعبة، ثم سعى بها على ظهره بين الصفا والمروة، ثم صعد بها على ظهره إلى منى ثم إلى عرفات، ثم أفاض بها من هناك على ظهره إلى المزدلفة، ثم إلى منى، حيث رمى عنها الجمرات ثم ذهب بها على ظهره إلى مكة المكرمة وطاف بها طواف الفرض، وبعد أن انتهى ذهب بها إلى أحد الصالحين وقال له:
هذه أمي حملتها على ظهري من بلدنا إلى هنا، وأديت بها جميع مناسك الحج على ظهري، فهل أديت حقها علي؟
قال الرجل الصالح:
لا يا بني! لم تؤد حقها عليك، لأنك حملتها وأنت كاره لحملها، وتتمنى موتها لتتخلص من مسؤوليتها. أما هي فكانت تحملتك وتعطف عليك تتمنى سلامتك وطول عمرك.
العبرة من القصة
رضا الوالدين لا يقدر بثمن، لذلك أنصحكم يا أبنائي الأعزاء أن تكسبوا رضا والديكم، فهو غال جدا؛ لأنه من رضا الله، وهو سبب سعادتكم في الدنيا والآخرة، فالجنة تحت أقدام الأمهات. والأم تبيع رضاها بالشيء القليل، تبيعه ببضع كلمات معسولة، بالمعاملة الحسنة، بدريهمات قليلة، بل تمنحه دون مقابل أيضا، فاحصلوا عليه بما تستطيعون، فأنتم الرابحون على كل حال.