كان يوجد رجل اسمه (مالك)، وكان يعمل في الشرطة عند حاكم البلد. تزوج مالك، وبعد سنة ولدت زوجته بنتا جميلة، أحبها مالك حبا عظيما، فكان منذ أن ينتهي من عمله يعود حالا إلى البيت لكي يرى ابنته ويلاعبها ويداعبها ويحملها، وكان يجلب لها معه اللعب الجميلة والمآكل اللذيذة التي تحبها.
ومضى على ذلك سنتان ونصف. ثم مرضت البنت مرضا شديدا، فجلب مالك لابنته الأطباء ليعالجوها ولكنها لم تشف من مرضها، ولم يكن الطب متقدما مثل اليوم. والظاهر أن الله أراد أن يختبر صبر مالك وإيمانه؛ لذلك لم يأذن بشفاء البنت. فتوفيت، ثم توفيت أمها أيضا. فحزن مالك عليهما حزنا شديدا، وبكى عليهما كثيرا. واسودت الدنيا في وجهه، وصار يرى كل شيء بشعا، مكروها.
وبدلا من أن يلجأ إلى الله ويدعوه أن يعوض عليه خيرا منهما، وبدلا من أن يلجأ إلى الصلاة والصبر، لجأ إلى الخمر، فصار يشرب كثيرا من الخمر، وصار يعامل الناس بخشونة وقسوة. حتى ضج منه الناس، وما ذنب الناس حتى يعاملهم بهذه الخشونة والقسوة؟! وماذا يستطيعون أن يعملوا معه؟! فهو يعمل عند حاكم البلد، لذلك صار بعضهم يدعو عليه، وبعضهم الآخر يدعو الله أن يصلحه ويهديه.
رؤيا يوم الحساب والمطاردة المرعبة
وفي إحدى الليالي بعد أن سكر مالك ونام؛ رأى كأن القيامة قد قامت، وأن الملائكة يسوقون الناس إلى الحساب وهو بينهم، وأن العرق قد غطى جسمه كله حتى وصل إلى عنقه، وكاد أن يختنق. وعند الحساب لم يجدوا له عملا صالحا، فهو يشرب الخمر، ويعذب الناس، لذلك حكموا عليه بالعذاب في وادي العقارب والحيات.
وسحبته الملائكة إلى ذلك الوادي ورموه فيه، وما أن رأته الحيات حتى هجم عليه حنش كبير (أي: حية عظيمة) وفتح فمه ليبتلعه. فهرب منه مالك وتبعه الحنش، وصار مالك يركض بكل قوته ويصيح ويستغيث، والحنش يركض وراءه وهو فاتح فمه ليبتلعه.
فرأى مالك في طريقه شيخا نظيف الثياب، طيب الرائحة، ولكنه ضعيف، نحيل، لا يستطيع الوقوف، فتوسل إليه أن يحميه من هذا الحنش الكبير الذي يتبعه من مكان إلى مكان.
فقال له: “ألا ترى ضعفي ونحولي؟! فكيف أستطيع حمايتك؟! ولكن هل تريد أن أدلك على من يحميك؟”
قال مالك: “نعم، أسرع ودلني عليه فإن الحنش يكاد يدركني ويبتلعني.”
قال الشيخ: “انظر إلى ذلك القصر الأبيض الجميل على تلك الربوة العالية، إذا استطعت أن تصل إليه سالما فقد تجد عنده من يحميك.”
فتوجه مالك نحو القصر وهو يركض بأقصى سرعته، والحنش يتبعه بأقصى سرعته أيضا يريد أن يبتلعه قبل أن يصل إلى القصر.
لقاء مفاجئ وإنقاذ من الهلاك
وبعد جهد كبير وتعب كثير وصل مالك إلى القصر الأبيض وهو يلهث ويتصبب عرقا، ويكاد يموت من الخوف والتعب، ولكنه وجد باب القصر مغلقا ومكتوبا عليه: “هنا يسكن عصافير الجنة أطفال المسلمين الذين توفوا قبل سن البلوغ.”
فتذكر مالك ابنته التي توفيت وهي صغيرة، فصار يناديها بكل قوته قبل أن يدركه الحنش. وفجأة فتحت إحدى نوافذ القصر، وظهرت فيها ابنته بعد أن سمعت صوت أبيها. وعندما رأته طلبت منه أن يدخل إلى القصر بسرعة.
فقال لها: “إن أبوابه مغلقة، والحنش أصبح قريبا مني.”
فنادت على الحارس، وطلبت منه أن يفتح باب القصر، وأن يدخل أباها بسرعة، وأن يقتل الحنش الذي يتبعه.
ففتح الحارس الباب وأدخل مالكا إلى القصر بعد أن وصل الحنش إليه وكاد أن يبتلعه، ثم نفخ الحارس على الحنش فاحترق وأصبح رمادا! وعندما أصبح مالك داخل القصر ركضت ابنته نحوه ورمت بنفسها عليه، فضمها إلى صدره وصار يقبلها ويبكي فرحا بلقائها، وبخلاصه على يدها من ذلك الحنش المخيف.
موعظة الابنة وتعهد بالتوبة
وبعد أن هدأت نفسه وذهب خوفه سألها: “ماذا تصنعون هنا يا بنتي؟”
قالت: “إننا نعيش هنا في الجنة أنا وأطفال المسلمين الصغار كلهم مثل الطيور والعصافير نطير من شجرة إلى شجرة، ومن مكان إلى مكان نأكل ما نشتهي ونحب، وننتظر يوم القيامة والحساب لكي نشفع لآبائنا وأمهاتنا ونحميهم من العذاب مثلما صنعت معك اليوم.”
وهنا سألها عن هذا الحنش الكبير: “لماذا كان يلاحقني من مكان إلى مكان، يريد أن يبتلعني؟”
قالت له: “هذا عملك السيئ في الدنيا، تحول هنا إلى حنش كبير يريد أن يهلكك، فأنت كنت تشرب الخمر وتؤذي الناس؛ فماذا تنتظر غير ذلك؟!”
فقال لها: “وذلك الشيخ الطيب الضعيف من هو؟ فلولاه ما كنت اهتديت إليك في هذا المكان.”
فقالت له: “الشيخ الطيب الضعيف هو عملك الحسن في الدنيا، فهو قليل وضعيف، فما كنت تعمل الخير إلا قليلا، ولو كان عملك الحسن في الدنيا كثيرا، لوجدت ذلك الشيخ الطيب الضعيف شابا قويا ولكان قد قتل ذلك الحنش الكبير بضربة واحدة منه، وما كنت تعبت ذلك التعب ولا خفت ذلك الخوف. يا أبت في الآخرة لا ينفع إلا العمل الصالح، يا أبت كفاك أعمالا سيئة، كفاك شرب الخمر وإيذاء الناس، يا أبت كثر من العمل الصالح، عليك بالصلاة والذكر والصبر بدلا من الخمر، اخدم الناس واعمل الخير بدلا من إيذائهم، فإن استطعت أن تصل إلي في هذه المرة فقد لا تستطيع مرة أخرى.”
توبة مالك بن دينار
فقال لها أبوها: “صدقت يا بنتي وأنا منذ اليوم إن شاء الله تعالى لن أشرب الخمر، ولن أسيء إلى أحد من الناس، وسوف ألجأ إلى الذكر والصلاة والصبر وعمل الخير مع الناس جميعهم، بعدما شاهدت من أهوال هذا اليوم.”
وانتبه مالك من نومه فوجد نفسه في فراشه في بيته، ولكنه كان متعبا، منهوكا، يغطي العرق الغزير جسمه كله. فحمد الله تعالى على أن ما شاهده كان حلما لا حقيقة ولكنه عزم على أن يغير طريقة حياته كلها.
فقام إلى أوعية الخمر فكسرها، وترك وظيفته في الشرطة، وصار يكثر من الذكر والصلاة، ويعمل الخير مع الناس كلهم، الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم، وصار يكتب المصاحف للناس ويعيش من أجرة كتابتها لهم، وأصبح رجلا ورعا تقيا من رواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن مات في مدينة البصرة في العراق سنة (131هـ). وكان اسمه مالك بن دينار.
العبرة من القصة
الرجوع إلى الحق وطاعة الله تعالى خير من التمادي في الباطل.