أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين لأصحابه أن الأعمال الصالحة تنفعهم في الدنيا أيضا، بالإضافة إلى نفعها في الآخرة، فقص عليهم هذه القصة، قائلا ما معناه: خرج ثلاثة نفر في سفر معا، فساروا حتى أدركهم المساء، واقتربوا من أحد الجبال، فقال بعضهم لبعض: “لنفتش عن كهف في هذا الجبل نبيت فيه هذه الليلة حتى الصباح.”
فوجدوا كهفا في سفح الجبل فدخلوا ليناموا.
وفي الليل هبت ريح قوية وهطلت أمطار غزيرة، فتدحرجت صخرة كبيرة من أعلى الجبل بفعل الريح والمطر، وهبطت حتى وقفت أمام باب الكهف، فسدت الباب على النفر الثلاثة، وما عادوا يستطيعون الخروج منه. فخافوا كثيرا، ماذا يصنعون؟ وكيف يخرجون؟ لقد حاولوا دفع الصخرة عن الباب فلم تتزحزح؛ لأنها كبيرة جدا، وصاحوا وصرخوا ولكن لم يسمعهم أحد، لأنه لا يوجد أحد هناك. فأيقنوا بالموت والهلاك.
ولم يبق لهم ملجأ ومساعد إلا الله، فقال بعضهم لبعض: “إذا كان أحدكم قد عمل عملا صالحا في سابق حياته لوجه الله تعالى، وخوفا منه؛ فليدع ربه الآن لعله يفرج عنا ما نحن فيه من البلاء.”
دعاء بر الوالدين يزيح الصخرة قليلا
فقام الأول وقال: “اللهم يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين. اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان (أي: أب وأم) شيخان كبيران، وكنت أطيعهما ولا أخالفهما أبدا، وأخدمهما، وأقدمهما على نفسي وعلى زوجتي وأولادي، خوفا منك وابتغاء مرضاتك، لأن رضا الأب من رضا الرب. وكان لي غنم أرعاها كل يوم من الصباح حتى المساء، وعندما أعود في المساء كنت أحلب الغنم في إناء وآخذ الحليب إلى أبوي أولا فيشربان حتى يشبعا، وبعد ذلك أسقي زوجتي وأولادي وأشرب أنا.
وفي أحد الأيام تأخرت في المرعى، وما عدت منه إلا في الليل، فحلبت الغنم في الإناء وذهبت بالحليب إلى والدي ليشربا، فوجدتهما قد ناما، فلم أرد أن أوقظهما لئلا ينزعجا، وذلك خوفا منك وطلبا لرضاك ورضاهما. وبقيت واقفا على رأسهما طوال الليل بانتظار استيقاظهما من نفسهما، وإناء الحليب بيدي وأولادي حولي يبكون من الجوع يريدون أن يشربوا من الحليب، ولكنني لم أشأ أن أسقيهم قبل أن أسقي والدي، وبقيت هكذا حتى استيقاظا في الصباح فأعطيتهما الحليب فشربا ودعيا لي بالتوفيق وكشف البلاء. ثم سقيت أولادي وزوجتي وشربت أنا. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء رضاك؛ ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة.”
فانفرجت الصخرة قليلا عن الباب، ولكن لا يستطيعون الخروج.
خشية الله تفتح بابا للنجاة
فقام الثاني وقال: “اللهم يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين. اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم وكنت أحبها كثيرا، وكنت أدعوها لتنام عندي، وكانت تأبى ذلك وتقول: هذا حرام، كيف أنام عندك وأنا لست زوجتك؟! ألا تخاف الله؟! وكانت هي فقيرة وأنا غني، لذلك لم أرد أن أتزوجها بسبب فقرها.”
“وفي سنة من السنين انقطع المطر، فلم تمطر السماء، وتلف الزرع، وماتت الماشية، وجاع الناس، وجاعت ابنة عمي أيضا، أما أنا فكنت غنيا، عندي مال كثير، فكنت أشتري الطعام من البلاد البعيدة، وأبيعه في بلدي فأربح به كثيرا من المال.”
“وفي أحد الأيام جاءتني ابنة عمي وهي جائعة ضعيفة، تجر رجليها جرا من الجوع، وطلبت مني شيئا تتقوت به لوجه الله تعالى، فقلت لها: إذا كنت تنامين عندي فأنا أعطيك مئة وعشرين دينارا، وأطعمك كثيرا من الطعام. فلم ترض، وقالت: هذا حرام، ألا تخاف الله؟! وذهبت ثم عادت وقالت: إنني أكاد أموت من الجوع، وأرضى أن أنام عندك. وعندما دخلت بيتي قالت: اتق الله تعالى يا رجل، ألا تخاف الله؟ فخفت منك يا الله وأطعمتها وكسوتها وأعطيتها المئة والعشرين دينارا، وقلت لها: انصرفي لشأنك. فانصرفت دون أن أمسها بسوء. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء رضاك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة.”
فانفرجت الصخرة قليلا عن الباب، ولكنهم لا يستطيعون الخروج.
الأمانة تكمل الفرج وتفتح المخرج
فقام الثالث وقال: “اللهم يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين. اللهم إنك تعلم أنني كنت صاحب مال وتجارة، وكان يعمل عندي أجراء كثيرون، وكنت أعطيهم أجرتهم كاملة في آخر السنة، وفي إحدى السنين أخذوا أجرتهم جميعهم ما عدا واحدا منهم، غضب ورفض أن يأخذ أجرته وذهب. فلم آكل أجرته، بل اشتريت له بها غنما على اسمه، ووضعت له راعيا عليها يرعاها كل يوم، ومرت عدة سنوات وازدادت الأغنام حتى أصبحت قطيعا كبيرا.”
“وفي أحد الأيام رأيت ذلك الأجير الذي أبى أن يأخذ أجرته وتركها وذهب، قد أقبل نحوي، وهو يجر رجليه جرا من الجوع والمرض، فقد أصابه المرض، وصرف ما كان عنده من مال، فتذكر الأجرة التي تركها عندي، وجاء يطلبها ليستعين بها على ما هو فيه، فرحبت به، وفرحت كثيرا بمجيئه، وقلت له: هل ترى هذا القطيع من الغنم؟ هذا كله لك!”
فقال: “لماذا تستهزئ بي وتضحك علي؟! أنا ليس لي عندك قطيع من الغنم، أنا أريد أجرتي التي تركتها عندك منذ عدة سنوات.”
فقلت له: “أنا لا أستهزئ بك أيها الرجل، بل أقول لك الحقيقة. هذه أجرتك التي كانت أمانة عندي اشتريت لك بها أغناما، نمت وازدادت في السنوات التي مرت حتى أصبحت قطيعا كبيرا كما ترى.”
ففرح الأجير الفقير فرحا كبيرا، وحمد الله وشكرني على ما فعلته من أجله، واستاق الأغنام كلها وذهب بها. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء رضاك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة.”
فانفرجت الصخرة عن باب الكهف، واستطاعوا الخروج منه.
فخرجوا من الكهف وهم لا يصدقون بالنجاة بعدما أيقنوا بالهلاك، وكان ذلك بفضل الأعمال الصالحة التي عملوها في حياتهم ابتغاء وجه الله تعالى. فعليكم يا أبنائي ويا بناتي بالأعمال الصالحة، اعملوها لوجه الله تعالى لا لوجه أي إنسان ولا تنتظروا الجزاء عليها من أحد، بل اتركوها لله، حتى إذا وقعتم – لا سمح الله تعالى – في المصائب والكروب دعوتم الله تعالى كما فعل النفر الثلاثة، فأنقذكم بها، وإذا لم تحتاجوا إليها في الدنيا، كانت لكم ذخرا وحجابا من النار في الآخرة.
العبرة من القصة
اعمل الخير لوجه الله تعالى فينفعك في الدنيا وفي الآخرة.